د. سيف بن ناصر المعمري
تزامن في الفترة القريبة الماضية مئوية ميلاد ووفاة علمين من أعلام الثقافة العالمية؛ أحدهما الإيطالي ليوناردو شاشا أو كما يصف نفسه بالعربي، حيث ولد في 1921 وتوفي في عام 1989، وهو الذي أظهر انتماء كبيراً لموطنه صقلية التي كانت مصدر إلهام كبير في مسيرته الأدبية، وما أنتجه من أعمال خالدة هو ما جعله اسماً خالدًا، ورمزا إيطالياً لا يمكن أن يطويه النسيان، وفي سنة ميلاد شاشا توفي أبو مسلم البهلاني ترك إرثاً شعريا وفكريا وإعلاميا موسعا ومؤثرا، منه تأسيس جريدة النجاح وهي من أوائل الصحف العُمانية والعربية علاوة على كثير من المؤلفات منها كتاب السؤالات وكتاب الجوابات، وديوان أبي مسلم، ونثار الجوهر.. وغيرها من المؤلفات القيمة، ولذا أدرجته اليونسكو ضمن الشخصيات المؤثرة عالمياً تقديراً لهذا الإرث الإبداعي العابر للحدود والجماعات الإنسانية.
خلد الإيطاليون المئوية بفعاليات غير مسبوقة تتناسب وتأثير شاشا؛ حيث قدمت برامج وثائقية تلفزيونية، وخصصت الصحف والمجلات ملاحق عنه، وتمَّ تنظيم لقاءات للحديث عنه بعدد من ساسة البلاد بما فيهم رئيس الجمهورية الإيطالية، علاوة على عدد من الأدباء والمثقفين الإيطاليين وغيرهم، ونظمت وزارة الكنوز الثقافية الإيطالية معارض صور افتراضية له وللكتب التي أصدرها، أما مئوية البهلاني فحُظيت بملف توثيقي خصصته مجلة نزوى له في العدد (105) الذي صدر في الشهر الماضي، يوثق مسيرته الشعرية والإعلامية ومحطات من حياته الثرية في زنجبار بصفة خاصة وشرق أفريقيا بصفة عامة، وهو ملف ثري جدًا يحسب لهذه المجلة الأدبية العمانية هذه الالتفات في البلدين لكلا القامتين الثقافتين يلفت نظرنا إلى أهمية الثقافة ونحن نعيش هذه الظروف التي لا يصل إلى مسامعنا فيها إلا كلمتان الاقتصاد وكورونا، اللتان على شفاه المسؤولين الاقتصاديين، والرؤساء التنفيذيين، ورجال الاستثمار الذين يؤكدون في معظم أحاديثهم أهمية التقشف عن كل ما هو ثقافي، حيث يعدون ما ينفق في هذا القطاع إنفاقاً غير مبرر، غير مقتنعين أنه ربما يقود بعد جيل أو اثنين إلى ظهور شخصية مثل شاشا أو أبي مسلم البهلاني يجلبان هذا الفخر الكبير لبلدانهم، أو يقودان إلى هذا الاسترجاع لقيمة الفكر والأدب في بناء المجتمعات الإنسانية في ظل تعالي القيم المادية، وسيطرة المضامين السطحية في كثير مما يقدم في المضامين المرئية والمكتوبة نتيجة التوسع في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي.
إنَّ الاحتفاء بهذه الكنوز الثقافية الإنسانية يحتم علينا أن نلتفت للقامات الثقافية والفكرية التي يزخر بها تاريخنا، والتي تعدى حدود إبداعها الحدود الوطنية، يجب أن يأخذ هذا الاحتفاء طابع الاستدامة بدلاً من أن يكون مؤقتاً لا يتعدى حدود تنظيم ندوة علمية، والاستدامة هنا تتطلب بث الحياة فيما خلفوا من كتب ومخطوطات، أو مقتنيات، أو بيوت، أو من خلال ربط الأجيال بهم في مؤسسات التعليم، أو من خلال تخصيص أماكن لهم في برامج ومناهج مؤسسات التعليم كتقديم مقرر اختياري عن أبي مسلم البهلاني أو غيره من العلماء المؤثرين يعرفهم بسيرته، ومنجزاته، ويعزز من الفخر لديهم بما أنجزه العمانيون خلال تاريخهم، خاصة في ظل الانطلاق لتنفيذ رؤية عُمان 2040 التي تنطلق من دعامات تركز على تعزيز الهوية الوطنية، وبناء أفق مستقبلي يستند إلى المعرفة والابتكار والمبادرة، والمغامرة والتحدي وهو ما يتجسد في شخصية أبو مسلم البهلاني، وغيره من النماذج في التاريخ، نحن في هذه المعرفة لا نستعيد التاريخ لكي نعرف ما دار فيه إنما نستعيده لكي نستلهم النجاحات التي يحملها لنا، ونستعيده لكي نتكئ على جوانب القوة التي تدفعنا إلى تحدي الظروف والتحولات التي نواجهها حاليًا.