سُعاد

 

محمد علي العوض

بالرغم من صعوبة ألفاظها واحتفاظها بروح الشعر الجاهلي لا أعتقد أنّ هناك نصًا شعريًا بلغ من الشهرة والذيوع ما بلغته قصيدة كعب بن زهير: "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول". فتلك النجابة والإجادة التي تميزت بها القصيدة لم تكن طفرة أو من فراغ فكعب ابن والده زهير بن أبي سلمي، من صلب شاعر تميّزت قصائده بالجودة والتنقيح ومن زمرة شعراء جاهليين أطلقت على قصائدهم صفة المعلقات والحوليات، فقد كانت القصيدة تستغرق كتابتها عندهم حولا كاملا حتى تخرج قشيبة تسير بذكرها الركبان، وتستشهد بها العرب بادية وحاضرة. لذا تجسّدت شهرة قصيدة "بانت سعاد" في عشرات الشروحات والمعارضات التي نسجت على منوالها، بجانب ترجمتها للغات الفرنسية والألمانية والآسيوية وغيرها.

لم يكن أحد يظن أنّ الشاعر الذي أهرق النبي دمه بعد أن هجا الإسلام وأتباعه بمن فيهم أخوه سيعلن انسلاخه من دين الكفر إلى الدين الجديد وسيمثل بين يدي النبي الكريم مادحا إيّاه ومنشدا:

 

إنّ الرسول لنورٌ يستضاءُ به

وصارم من سيوف الله مسلول

استحسن الرسول – صلى الله عليه وسلم- أبيات كعب فكافأه عليها النبي الكريم ببردته الشريفة، فسميت القصيدة "البردة" تيّمنا بذلك؛ بل باتت تلك القصيدة الاستعطافية والاعتذارية أكثر شهرة من شعر حسان بن ثابت مادح الرسول وشاعره الأول الذي تميزت كلماته وصوره الشعرية بقوة العاطفة الدينية وطابع روح الإسلام، وربما يعزى ذلك لدور الشاعر "الإعلامي" في ذلك العصر، فقد كان الشاعر صوت القبيلة والمنافح عنها ولسانها الذي يحرك "الرأي العام"، لذلك كان المسلمون يأملون في إسلام آخر شاعرين من العهد الجاهلي؛ الأعشى وكعب حتى تميل كفة "الإعلام" لصالح الدين الجديد..

القصيدة ابتدرت نفسها كعادة الشعر الجاهلي بالغزّل:

 

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

مُتيمٌ إثرها لم يفد مكبول

ورسم الشاعر خلال البيت لوحة تجسيمية منح فيها القلب صفة إنسانيّة جعلته يتبع أثر المحبوبة، مصورًا إيّاه أسيرًا يسفر في الأغلال، مُكبلا سقيما في حالة هلاك وضياع وفناء. ذهب حب سعاد صاحبة الصوت الأغن والعيون المسبلة الكحيلة بعقله:

 

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلا أغنٌ غضيضُ الطرفِ مكحول

أي ظبي خجول في صوته غنة تسبل عينيها المكحلتين وتغض صوتها وطرفها، وصفة غض الطرف كانت محبوبة عند الجاهليين كقول عنترة:

 

دارٌ لآنسةٍ غضيض طرفها طوع العناق لذيذة المتبسم

 

وسعاد هذه تملك تكوينا أنثويًا فريدًا فهي:

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة

لا يشتكي قصر منها ولا طول

أي تراها هيفاء ضامرة البطن ودقيقة الخصر حال كونها مقبلة عليك، أما حين تدبر عنك فهي عجزاء أي كبيرة الردف وصاحبة عجيزة مستديرة. وهي ليست بالقصيرة ولا بالطويلة.

هذه الصور الحسية أنشدت شعرًا في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فاستحسنها وأثاب صاحبها، وهذا التكريم النبوي للشاعر يستدعي دلالات وتساؤلات عدة من بينها موقف الإسلام من الشعر ومن العملية الإبداعية عموما. فالتكريم كما يقول أحمد درويش في كتابه "متعة تذوق الشعر" يدل على أنّ الإسلام فرّق منذ بدايته الأولى بين الكلام العادي الذي يدور في الحياة اليومية لأغراض عملية ويحاسب صاحبه عليه صدقا وكذبا وإساءة وإحسانا وتتم فيه مطابقة الفعل بالقول؛ وبين الكلام الفني الذي يهدف إلى إثارة المشاعر وترقيق الأذواق وصناعة التشكيل الجمالي ولا يحاسب فيه بمعايير الكلام العملي اليومي، وإنما بمعايير أخرى؛ والخلاصة هنا أنّ السلام لم يعامل الكلام الإبداعي الجميل بمعايير الكلام العادي العملي" بل توسع في الإصغاء إلى اللغة الفنية.

لم يؤثر عند النبي الكريم قول الشعر وأنّه إذا أنشد بيتا لم ينشده كاملاً، وقد صح الحديث عنه أنّه قال: "أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلُ" حيث اقتصر القول على هذا الشطر ولم يكمل الشطر الثاني (وكل نعيم لا محالة زائل).

وقد علل العلماء امتناع رسول الله عن قول الشعر لنفي الظنية التي حاول المشركون إلصاقها بالرسول حين قالوا إنّه شاعر عندما سمعوا القرآن؛ ليجيبهم الرحمن (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) وأن ما جاء به من ذكر حكيم أسمى من الشعر وأبلغ، وبرغم ذلك كان النبي الكريم يزن الشعر بميزان التذوق والاستجادة، ويقدر هذا الضرب من الفن وكان يقول: "إنّ من الشعر لحكمة" و "لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين". حتى أنّه كان يستمع لشعراء لم يدخلوا في الاسلام مثل أمية بن الصلت الذي قال عنه النبي: "فلقد كاد يسلم في شعره."

ولم يعرف عنه صلوات ربي عليه أنّه أنكر على أصحابه قول الشعر بل اتخّذ الرسول شعراء وقربهم إليه ككعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت الذي نصب له النبي منبرًا في المسجد وقال له "اهجهم فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام، في غلس الظلام، اهجهم ومعك جبريل روح القدس..".

وسأل رضوان ربي عليه يوما عبد الله بن رواحه: ما الشعر؟ فيجيبه ابن رواحه: شيء

يختلج في صدر الرجل فيخرجه على لسانه شعرا.

وورد في " الأغاني" أنّ الرسول كان قبل النبوة يحضر مع والدته سوق عكاظ ليسمع الشعر، فقد رُوي أنّه سمع الشاعر عمرو بن كلثوم وهو بعكاظ ينشد معلقته الشهيرة، ويقول الخليل بن أحمد الفراهيدي: "كان الشعر أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من كثير من الكلام".

وكان أدق فهما وأكثر إدراكًا لمقاصد الشعراء لذلك عندما قال كعب بن زهير:

 

إنّ الرسول لنور يستضاء به

مهند من سيوف الهند مسلول

 

قال له الرسول: من سيوف الله - بدلا من سيوف الهند- فصوبها كعب فصارت كما قال النبي الكريم.. وحين أنشده النابغة الجعدي قوله:

 

ولا خير في حلم إذا لم تكن له

بوادر تحمى صفوه إن يكدرا

ولا خير في جهل إذا لم يكن له

حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

استحسن الرسول الكريم أبياته ودعا له قائلا: "أجدت لا يفضض الله فاك" وقيل إنّ الجعدي عاش مائة وثلاث سنوات لم تسقط له سن. وجّسد إعجابه صلى الله عليه وسلم بقول عنترة:

 

ولقد أبيت على الطوى وأظله

حتى أنال به كريم المأكل

بالقول: "ما وُصف لي إعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة".

ويبقى القول إنّ قصيدة "بانت سعاد" التي تجري على منوال الشعر الجاهلي وتحمل ملامح تلك الفترة؛ استعار فيها كعب بن زهير أسلوب "ملك الاعتذاريات" النابغة الذبياني، فبمثلما قال الأخير للنعمان بن المنذر:

لئن كنتَ قد بُلغتَ عني وشاية

لَمُبلغُك الواشي أغَشُّ وأكذَبُ

قال كعب مستعيرا ذات صورة الوشاية:

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم

أذنب ولو كثرت عني الأقاويل