"المجالس البلدية".. ماذا تحقق وماذا ننتظر؟

 

 

 

عمَّار الغزالي

لا حديثَ هذه الأيام سوى عن انتخابات الفترة الثانية للمجالس البلدية، والمقرَّرة في الربع الرابع من هذا العام، بكلِّ تفاصيلها وتداعياتها وتأثيراتها.. مُفردات وعبارات وأسئلة تحضر بقوة وكثافة في بيوتنا ومكاتبنا وإعلامنا. فباتت مُفردات كمرشح ومُنتَخب وصَوْت، ودائرة، معتادة على المسامع، وكذلك أسئلة مثل: ما هي الصلاحيات الجديدة؟ وما مدى قناعة المواطن بنتائج الفترة الأولى على أرض الواقع؟ وماذا حققت؟ وماذا ننتظر؟...وغيرها الكثير؛ سواء على صعيد المواطن البسيط أو بين أوساط المهتمين بالشأن العام.

خصوصًا وأنَّ للعمل البلدي دورًا محوريًّا في تحريك عجلة التنمية، فلقد تحدَّث الرئيس الكوري السابق لي ميونج باك -خلال زيارته للسلطنة في مارس 2014- عن تجربته في العمل البلدي عندما تولَّى رئاسة بلدية مدينة سول -عاصمة كوريا الجنوبية- ودورالعمل البلدي في الاقتصاد والتنمية؛ وذلك في مُحاضرة بجامعة السلطان قابوس بعنوان "التجربة الكورية في الاقتصاد والتنمية"، وفي كتابه "الطريق الوعر" تحدث بتفصيل أكبر عن المشاريع التي خطط لها ونفذها خلال توليه رئاسة بلدية سيول لمدة 4 سنوات من 2002-2006، وكيف شكلت تلك المشاريع مستقبل كوريا الجنوبية ورفعتها إلى أعلى المستويات إقتصادياً وتنمويًّا.

وعودٌ على موضوع تجربة السلطنة في العمل البلدي، فالمُجمع عليه أنَّ الدورة الحالية تُمثل بلا شك خطوة واسعة للأمام، باتجاه بناء المجتمع بمشاركة جميع فئاته وشرائحه؛ باعتبارها تمس واحدة من أهم الإجراءات الإدارية الفاعلة في إحداث نقلة تنموية شاملة ومستدامة للوطن. ومن هنا، تبقى الطموحات والتطلعات والآمال التي يُعلقها المواطن على هذه المجالس كبيرة وكثيرة، باعتبارها صَوْته المسموع لدى المسؤولين وصنَّاع القرار.

وككشف حساب للفترة المنقضية من عُمر التجربة البلدية في السلطنة، يُمكن القول بأنَّ الفترة الأولى كانت مُفيدة من حيث الفكرة والمبدأ، لكنها لم تكن مُجزية من حيث التطوير بنسبة كبيرة؛ لأنَّها افتقدتْ في جزء كبير منها إلى عامل الدعم الحكومي في بعض الجوانب، وهذا أمر طبيعي الحدوث في بداية أي تكوين ديمقراطي، ولعلَّ حداثة تشكيل هذه المجالس وعدم وضوح الرؤية لدى الكثير من الناس بشأن اختصاصاتها، والهدف من وجودها، أو تداخل الفكرة بين اختصاصاتها واختصاصات المجالس المنتخبة الأخرى (مجلس الشورى أقصد)، سبب في ذلك، وهو في رأيي السبب الأبرز في عدم مقدرة السنوات الثلاث الماضيات على إقناع شريحة لا يُستهان بها من المواطنين -بل ومن والمعنيين- بهذا الاستحقاق التنموي المهم. إلا أنه ومن الطبيعي بعد مرور الوقت -ومن خلال أعمال المجالس البلدية، وما ستتركه من بصمات واضحة في المجتمع- سيتعرَّف الناس على هذه المجالس بشكل أوسع، وسيعلم الجميع أهميتها من خلال ما سيتم النظر إليه على أرض الواقع، وستزيد القناعة بأهمية الترشيح واختيار المترشح المناسب.

صحيح أنَّ الفترة الأولى من المجلس شكَّلت وعاءً ديمقراطيًّا استوعب مكونات المجتمع المحلي وممثلي الأجهزة الحكومية الخدمية لتكوين كيانات مُتكاملة قادرة على النهوض بمسؤولياتها؛ إلا أن تأثيراتها المباشرة للحد من البيروقراطية كانت "ناعمة" نوعا ما، ولم تستطع تسلق هذا الجدار الفولاذي؛ لاسيما وأن الصلاحيات التي مُنحت لها كبَّلت في بعض الأحيان مساعي الأعضاء في إيجاد بيئة مناسبة لتنفيذ القرارات على أرض الواقع، وهو ما سمعته عن أكثر من عضو خلال الفترة الماضية.

فكثيرٌ منهم يقولون إنَّ مقترحاتهم خلال الفترة الماضية لم تلقَ الاهتمام الكافي، وهي معقولة وليست بذات الحجم الذي يُرهق ميزانية الدولة، وهو بالتأكيد ما يُقلل من حجم المنجز والآمال المعقودة على هكذا مجالس، والتي من المفترض بها أن تُتاح لها الفرصة لتقليص الظل الإداري، وتطبيق لا مركزية القرار؛ بما يخدم نهضة المحافظات والولايات؛ من خلال قرارات نابعة من صَوْت أبنائها، باعتبارهم أكثر التصاقًا باحتياجاتها التنموية؛ وبالتالي التكريس لمفهوم "الشراكة المجتمعية" في قضايا العمل البلدي.

الأمر ليس قاتمًا بالطبع، بل إنَّ واحدة من أبرز وأهم إيجابيات المرحلة الماضية، أنها أضاءت الشارة الخضراء أمام وطننا للولوج إلى مسار ديمقراطي جديد، يدعم تجربة إشراك المواطن في صنع القرار؛ إذ إنَّ تشكيل المجالس البلدية من خلال الانتخابات، واختيار أعضائها عبر الصناديق الشفافة، هو تطوُّر مهم، ولبنة جديدة في صرح الدولة العصرية الحديثة، بما يُسهم في تطوير الخدمات والارتقاء بها؛ ويواكب تطلعات المواطنين، ويُرسي أسس انطلاقة وثابة نحو آفاق جديدة لتطوير الخدمات البلدية في بلادنا؛ عبر الآراء والمقترحات والتوصيات بتجويد الأداء؛ وبالمشاركة الشعبية الفاعلة التي قوامها أعضاء منتخبون متفاعلون مع هموم مجتمعهم.

ومع اقتراب اكتمال عقد المرحلة الجديدة، يتطلع المواطن العُماني إلى رفع كفاءة مجالسنا البلدية في التعاطي مع التحديات التي تواجه المجتمع، والاضطلاع بدورها في زيادة سرعة الإنجاز للمشاريع التنموية، ورفع مستوى التخطيط والتكامل المؤسسي لضمان تخطيط حضري أفضل للأحياء السكنية والتجارية، وتأصيل الفكر الابتكاري في تصميم المنشآت والمباني التجارية والخدمية؛ بما يتوافق والمعايير البيئية التي تؤمِّن استدامة مناسبة للمتاح من الموارد الطبيعية والأراضي في المدن الحضرية، إضافة إلى بناء قاعدة معلومات تنموية للولايات تسهل تقييم الخدمات وكفاءتها، إلى جانب تقييم قطاع النقل والمواصلات في المدن والأحياء السكنية والخدمات الأخرى المرتبطة بأنشطة المجتمع الترفيهية والرياضية، وأن تقوم تلك المجالس بمراجعة التشريعات المنظِّمة للقطاع البلدي والمساهمة في تطويرها بما يتوافق وخصوصية المدن المختلفة، وبما ينسجم والإطار العام للدولة في التنمية والرؤية المرتبطة بالهوية العُمانية للمدن والمنشآت، وما لا يغفل التطوير بما يتلائم وروح العصر.

كما تنعقد الآمال على قيام مجالسنا البلدية -وبالكيفية الموصوفة في قانون إنشائها ولائحته التنفيذية- اقتراح إنشاء وتطوير وتأهيل شبكات الطرق في الولايات المختلفة، وتجميل وتنظيم الشوارع والميادين والأماكن العامة، واقتراح المشروعات التنموية ومواقع تنفيذها، ودراسة وضع المخططات العمرانية الهيكلية والعامة، وتنظيم المخططات السكنية والتجارية والصناعية والسياحية، وإنعاش المشاريع الصغيرة والمتوسطة؛ وأن تكون لها الأولوية واتخاذ مزيدٍ من القرارات التنموية الرامية لتنويع تلك المشاريع.. وكلها آمال تنبني على مدى قرب الأعضاء من حاجيات أبناء الوطن، وكذا صانع القرار، ودرايتهم بالتحديات المحتملة؛ مما يعزز صوابية القرارات ومنطقيتها.

ولا شك أنَّ توفير صلاحيات مالية وإدارية وقانونية للمجالس البلدية في الفترات القادمة، أصبح واقعا لا مناص عنه؛ كونه سيؤدي إيجابيا إلى تفعيل أداء أعضاء المجالس على الصعيدين التنفيذي والميداني، وسيحلحل الكثير من القضايا المتعلقة بالمشاريع الخدمية والتنموية التي تواجهها بعض الولايات منذ فترات طويل.

إننا ونحن نترقَّب ونتطلَّع للمستقبل بانتظار فتح باب التصويت لانتخابات الدورة المقبلة، لا يُمكننا إغفال نقطة غاية في الأهمية وهي حثِّ المواطنين على المشاركة واختيار الأكفاء بعيدا عن العصبيات والقبليات، وأن يضعوا عُمان نصب العين ولا شيء غيرها، وهي نقطة أُشبعت بحثاً وتنظيرًا وتحليلاً من الأقلام المُحبَّة لهذا الوطن على مدى تجاربنا الانتخابية الماضية. ويبقى القول بإنَّ نجاح أي عمل ديمقراطي عموما، والعمل البلدي على وجه التحديد، يتطلَّب من المرشَّح للعضوية إلماماً كاملا بكل الجوانب في الولاية، ومدى تأثيرها على عجلة التنمية، وكيفية التعامل معها؛ من أجل خدمة الحياة المعيشية للمواطن؛ فهذه أمانة عظيمة ومسؤولية كبيرة تجاه وطننا الغالي، تستوجب من كل الأعضاء تحقيق المراقبة الذاتية، وأن يجعلوا الله تعالى أقرب الناظرين إليهم؛ "فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول..."!