التنمية الذكية

عمَّار الغزالي

أنْ تسمع عن معرض "كومكس 2019" -بأركانه الثمانية المتميزة- شيء، وأنْ تَدْلف من بوَّابته، مُتجوِّلا بين أروقته داخل مركز عُمان للمؤتمرات والمعارض، شيء مُختلف تمامًا.. فكَمُّ الأفكارِ والمشروعات التقنية، وعُرُوض أحدث ما وَصلت إليه تكنولوجيا المعلومات، تَرْجَم شعار دورة هذا العام "ذكاء التقنية"، وفي ذات الوقت مُطمئِن بأنَّ مسار تأسيس البُنى الأساسية لتطوير قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات لدينا هنا في السلطنة يسير في اتجاهه الصحيح، وأن الخطى التي ننتهجها، وإن كانت بطيئة بعض الشيء، بيد أنها واثقة على دربِ تطبيق تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، واستحداث أبرز تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ مما سيُساعد على تنفيذ إستراتيجية "عُمان رقمية" والتحوُّل الكامل للحكومة الإلكترونية، ويعزز مُمكنات تطوير وتحديث القطاع بشكل عام.

فأنْ تشارك 23 مؤسسة/شركة عُمانية حكومية بمعرض هذا العام في جناح "عُمان الرقمية"، إلى جانب مطوِّرين تِقنيين من مختلف دولل العالم، وما أظهرته شركاتنا من منافسة قوية، إضافة لتدشين قطاع الخدمات الإلكتروني بهيئة تقنية المعلومات لخدمة "منشود"، كنظام رُبوت دَردشة آلي يهدف لتحسين تجربة العملاء بتقنيات الذكاء الاصطناعي دون الحاجة للتدخل البشري، والتفاعل معهم باللهجة العُمانية الدارجة، ليُعلي سقف الطموح فيما يُتَّخذ من إجراءات تهيِّئ لاقتصادنا الوطني التحول نحو اقتصاد ذكي ومستدام.

هذا بالطبع إذا ما قُرئت في سِياقِه فكرة وموضوع المؤتمر الذي صاحب أعمال معرض 2019، والذي اشتمل على جلسات تخصُّصية عن الثورة الصناعية الرابعة، وإنترنت الأشياء، والمدن الذكية، والبيانات الضخمة، وسلاسل الكتل "البلوكتشين"، وهي على قدر ما تبثُّ -كما ذكرت- رسائل اطمئنان بصحة المسار والمنهج؛ إلا أنها كذلك تفرض ضرورة أخذ خطوات أكثر سُرعة وصِحَّة (وتحت صِحَّة ألف خط) لتعبيد الطريق نحو انتهاج آفاق تكنولوجية أرحب تستفيد منها السلطنة في إحداث تغيير جذري في بيئة الأعمال، ومضاعفة حجم الاستثمارات في إطار خطط تنويع مصادر الدخل القومي، كصياغة إستراتيجية اقتصادية تكنولوجية جامعة تزيد متانة البنية الأساسية للثورة التقنية، وتُهيِّئ سوق العمل لاستقبال التقنيات الجديدة، ونبني قاعدة بحثية تجمع مختلف الأبحاث المرتبطة بالتقنيات الحديثة والحوسبة السحابية لإنشاء كيان معرفي متخصص، يُعين على انتقال سلس لاقتصادٍ رقميٍّ يبتعد عن البيروقراطية، ويسعى لتمكين اللامركزية، ويُعلى من قيم وأنظمة الحوكمة والإفصاح والشفافية والأتمتة والحرية المالية.

وإن كُنَّا نتحدَّث عن تحركات صحيحة ومدروسة، فما من شك أنّ الاستفادة من المواهب والعقول العُمانية الشابة تأتي على رأس الأولويات؛ إذ إنَّ أدوات وأجهزة التكنولوجيا مهما بلغت من تطوُّر، فهي آلات صماء تظل مفتقرة للإسناد والمساندة من العقل البشري باعتباره المحرك الأول؛ مما يُبقي الحاجة مُلحَّة لبناءِ عقليات مبدعة ومبتكرة، عقليات تُؤمن في وثقافتها وأدواتها بضرورة تطوير لغتها إلى اللغات الأكثر ذكاءً ومعرفة.. فالعالم اليوم لا يريد روبوت يُرشده لنقاط الخدمة، بقدر ما يحتاج عقلاً اصطناعيّاً ذكياً يفكّر ويخطّط ويحلّل ويستشرف آفاقاً أعلى وأعمق.. وهو ما لا تقدر الآلة على إيجاده دون الميزة التي كَرَّم الله بها الإنسان.. العقل.

إنَّ النجاحات المتحققة لنُسخ "كومكس" على مدى السنوات الماضية، وما نشهده من قدرة مذهلة على الانطلاق من حَيْث انتهت كل نسخة، وفعالياته الباعثة على الأمل ليمنحنا عينًا حالِمة لرؤية عُمان في مصاف الدول الأكثر ازدهارًا تقنيا وتكنولوجيا، وأن تحجز مقعدًا في الصفوف الأمامية في عالمٍ يحتكم للتقانة والذكاء الاصطناعي، فأي تأخيرات عن اللحاق بهذا الركب ستكون نتائجه بلا شك وخيمة، إذ لن ترحم تكنولوجيا المستقبل أحدًا، إلا من أدرك مبكراً أنَّ النَّصر لمن يستخدم هذه التقنيات بصورة تعزِّز فكر التمكين والحرية في مجتمعات قائمة على المعرفة واقتصاد المعرفة، وهذه الأخيرة لا تقبل عقليات إدارية تقول "كل شيء تمام"، وتساير عقلية قديمة تقوم على الصور والدعاية الوهمية.. فهل نحن مدركون؟ وهل نحن واعون بأنَّ العالم القادم الأكثر تطوراً يكافح من أجل الحصول على التمكين الرقمي كحق وليس صلاحية أو وسيلةِ استخدام فحسب؟ فها هي المدن الذكية في كل مكان بالعالم تُلهم وتقود مدناً أخرى لمحاكاة تجربتها الفريدة؛ فيا عسى ولعل نضَع في القريب العاجل حرفًا على أوَّل سطر نحو تحوُّل إحدى مُدن عُمان المجد لمدينةٍ ذكيةٍ يُشكِّل اقتصادُ المعرفة عصباً رئيسيًّا في كافة أنشطتها!