الأكراد بين حلم الدولة وواقع الشتات (2-2)

 

 

علي المعشني

نستكملُ اليومَ الحديثَ عن الأكراد، ونتناول في هذه النافذة أصولَ هذه المجموعات، وفقا لمختلف المراجع والمصادر الأنثربولوجية.

تختلف النظريات في أصل الأكراد؛ فبعض المؤلفات تُعرِّف الكرد على أنهم "بدو الفرس"، كما أورد الطبري وابن خلدون في المقدمة.

الأكراد في الأصل من العرب، وهذا ما ذهب إليه ابن عبد البر في كتابه "القصد والأمم" أن "الأكراد من نسل عمرو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء، وأنهم وقعوا إلى أرض العجم فتناسلوا بها وكثر ولدهم فسموا الأكراد".

وقد قال الشاعر في هذا:

ولا تحسب الأكراد أبناء فارس...

ولكنهم أبناء عمرو ابن عامر

ويقول مُحمَّد أمين زكي (1880-1948) في كتابه "خلاصة تاريخ الكرد وكردستان" أنَّ هناك طبقتين من الكرد؛ الطبقة الأولى يرى أنها كانت تقطن كردستان منذ فجر التاريخ ويسميها "شعوب جبال زاكروس"، ويقول بأن شعوب لولو، كوتي، كورتي، جوتي، جودي، كاساي، سوباري، خالدي، ميتاني، هوري (أو حوري)، نايري، هي الأصل القديم جدًّا للشعب الكردي. والطبقة الثانية: هي طبقة الشعوب الهندو-أوروبية التي هاجرت إلى كردستان في القرن العاشر قبل الميلاد، وهم الميديون والكاردوخيون، وامتزجت مع شعوبها الأصلية ليشكلا معاً الأمة الكردية.

وذكر المؤرخ اليوناني زينفون (427-355) قبل الميلاد في كتاباته شعباً وصفهم "بالمحاربين الأشداء ساكني المناطق الجبلية"، وأطلق عليهم تسمية كاردوخ التي تتكون من كارد مع لاحقة الجمع اليونانية القديمة "وخ"، وهم الذين هاجموا الجيش اليوناني أثناء عبوره للمنطقة عام 400 قبل الميلاد، وكانت تلك المنطقة استناداً لزينفون جنوب شرق بحيرة وان الواقعة في شرق تركيا. ولكن بعض المؤرخين (مثل محمد أمين زكي) يعتبرون الكوردوخيين شعوباً هندو-أوروبية انضمت لاحقاً إلى الشعب الكردي الذي يرجع جذوره إلى شعوب جبال زاكروس غير الهندو- أوروبية.

كما أنَّ في قصص الأنبياء أن الأكراد هم من أصول (آرية) أي أبناء "آري" ابن نوح. ومن ناحية علم الأنثروبولوجيا التقليدية، يرى العلماء أن الأكراد بغالبيتهم العظمى ينتمون إلى عنصر الأرمنويد.

التاريخ - إمبراطورية ميديا: الميديون الآريون هم أحد أهم جذور الشعب الكردي؛ فالنشيد الوطني الكردي الحالي يشير بوضوح إلى أن الأكراد هم "أبناء الميديين"، والمؤرخ الكردي محمد أمين زكي يقول في كتابه "خلاصة تاريخ الكرد وكردستان" بأن الميديين وإن لم يكونوا النواة الأساسية للشعب الكردي فإنهم انضموا إلى الأكراد وشكلوا الأمة الكردية.

هاجر الميديون بحلول سنة 1500 قبل الميلاد من نهر الفولغا شمال بحر قزوين واستقروا في الشمال الغربي من إيران وأسسوا مملكة ميديا. استناداً إلى كتابات هيرودوت فإن أصل الميديين يرجع إلى شخص اسمه دياكو الذي كان زعيم قبائل منطقة جبال زاكروس، بحسب ما تذكر الموسوعة الحرة "ويكيبيديا".

لذلك؛ فالحديث عن الأكراد وتاريخهم ومكوناتهم الثقافية والدينية حديث مُضنٍ وطويل في ظلِّ شُح المصادر وتضادها كون الحديث عنهم يعني المساس بسيادة أوطان وكيانات سياسية قائمة، ويأخذ طابع الصراع والسجال الفكري أكثر من الموضوعية والمنهجية العلمية.

لهذا؛ حرصتُ في هذا المقال على لمِّ مجموعة من الآراء ومن عدد من المصادر المختلفة أعلاه عن الأكراد للوصول إلى قراءة تقريبية أو قطعية بإمكانية قيام الدولة الكردية الكبرى في يوم من الأيام أو حتى الجيوب الكردية في الدول الحاضنة لهم حاليًا على شكل حكم ذاتي أو تقسيم إداري مستقل لهم في إطار الدولة وسيادتها.

لا شكَّ أنَّ الأكرادَ عانوا الكثير من مظاهر التذويب القسري أو الطوعي في الكيانات التي ينتمون لها، فقد كان لكل فئة منهم نصيب من القمع والاضطهاد لجبرهم على تخطي هويتهم الفرعية والانصهار في الهوية الوطنية الجامعة من باب السيادة والأمن القومي والسلم الأهلي وفق مفهوم كل دولة.

وبهذا.. يُمكن القول بأنَّ الكردي ينظر إلى دولة كردستان الكبرى كحلم مُخلِّص له من الاضطهاد والشتات في حالة عاطقة جياشة ولا وعي عميق، بينما الواقع بكل تفاصيله يبرهن على أنَّ الأكراد فد يتفقون في لحظة وعي على كل شيء عدا قيام كردستان الكبرى فيما لو تهيَّأت لهم كل الأسباب الإقليمية والدولية لذلك.

فالكرد اليوم أطياف ثقافية ودينية وفكرية لا تلتقي سوى في التسمية العرقية فقط، والكرد خلافاتهم وثأراتهم الدموية والفكرية مع بعضهم أعمق بكثير من خلافاتهم وثأراتهم الدموية والفكرية مع أوطانهم اليوم؛ فالكرد سُنة وشيعة وعلويين وأبناء ثقافات وبيئات وجغرافيات مختلفة إلى حد التضاد، وزادتهم الولاءات الفكرية الدينية والسياسية فرقة وتنافرا وتناحرا؛ فالكرد اليوم قوميون مُتطرفون، ومن مختلف أطياف اليسار، ومن مختلف أطياف الإسلام السياسي، وفيهم العلمانيون والليبراليون والملحدون، فتحت أي مظلة وهوية يمكن أن يلتقي هؤلاء ويحتكموا؟!

وإذا تجاوزنا بذور الشتات والشقاق والثأرات في الكرد أنفسهم، فكيف يمكن لأوطانهم (تركيا، العراق، سوريا، إيران) السماحَ بتقطيع أوصال منها والنيل من وحدة ترابها وهي بكامل وعيها؟! وكيف ستقبل قوى عظمى كروسيا والصين بإقامة كيانات سياسية قسرية على أساس عرقي يهدد مكوناتها ووحدتها وأمنها القومي، ويشكل سابقة سياسية تمثل بالون اختبار لتمريره على جغرافيات أخرى.

وهل من صالح الغرب وحلفائه خلق كيان كردي تملأه الأضداد والتناقضات وخسارة علاقاته بكيانات سياسية تاريخية وفاعلة إقليميًّا ودوليًّا؟!

جميع المؤشرات تُوحي بأنَّ مُستقبل الأكراد كماضيهم وحاضرهم فقط؛ فالأوضاع الإقليمية والدولية تجري رياحها في غير صالحهم، ونموذج كردستان العراق اليوم ليس سوى نموذج فزاعة أقامته إرادة الغرب للتهديد والاقتصاص من عروبة العراق وأمنه ووحدة ترابه والتلويح به في وجوه خصومهما سوريا وإيران، مع تطمين تام لحليفهم التركي بأنَّ الأمر لن يشملهم ولا يعنيهم؛ فهو مجرد استثناء وانتقاء لا يعتد به ولا يُبنى أو يُقاس عليه.

وفي مقابلة مع جلال الطالباني -أجراها تليفزيون هيئة الإذاعة البريطانية، يوم 8 أبريل 2006- صرَّح طالباني بأن فكرة انفصال أكراد العراق عن جمهورية العراق أمرٌ غير وارد وغير عملي؛ كون أكراد العراق محاطين بدول ذات أقليات كردية لم تُحسم فيها القضية الكردية بعد، وإذا ما قرَّرت هذه الدول غلق حدودها فإن ذلك الإجراء يكون كفيلا بإسقاط الكيان المنفصل عن العراق. تم استعمال القضية الكردية في العراق كورقة ضغط سياسية من الدول المجاورة؛ فكان الدعم وقطع الدعم للحركات الكردية تعتمد على العلاقات السياسية بين بغداد ودمشق وطهران وأنقرة وكان الزعماء الأكراد يدركون هذه الحقيقة.

-------------------------

قبل اللقاء: "أسوأ موقف في حياة أي إنسان سَوِي: أنْ يجد نفسه مُرغمًا على الدفاع وحب السيئ الذي يعرفه، خوفًا من الأسوأ الذي لا يعرفه".. وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com