هل انقضى زمن المبادرات؟

 

عبيدلي العبيدلي

مؤخرًا، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مجموعة من المواد النصية التي تحمل مقترحات، أو تدعو للتقدم، بمبادرات سياسية تنتشل البحرين من حالة الجمود التي وصلت إليها، والتي تقترب من حالة الشلل الكامل لمُعظم أطراف العمل السياسي البحريني. ودون الحاجة إلى إرهاق القارئ، الذي ربما وصله البعض من تلك النصوص وتفاصيل محتوياتها، بما حملته قنوات تلك الوسائل من مبادرات، يمكننا القول إنّ أيًا منها لم يلق نصيبه من النَّجاح، لأسبابٍ كثيرة.

من أجل التمهيد لتشخيص أسباب الفشل أو النجاح الذي يمكن أن تعرفه أية مبادرة، لا بد من تسليط الأضواء على مسألتين لهما علاقة مُباشرة وغير مُباشرة بمسألة المُبادرات.

في البدء لا بد من الإشارة إلى أنّ تاريخ البحرين المعاصر عرف الكثير من المبادرات الشعبية والرسمية البعض منها نجح في وضع حد للأزمات ومن ثمّ ترك بصماته واضحة على هذا التاريخ، في حين فشل البعض الآخر وتحول إلى مادة تقرأها الأجيال.

ولعل أبرز محطتين في طريق المُبادرات تعكسان حالة النجاح والفشل التي نتحدث عنهما هما: على المستوى الرسمي، تلك المبادرة الجريئة التي أخذ على عاتقه مسؤولية إنجاحها صاحب الجلالة ملك البلاد التي حملت مشروع ميثاق العمل الوطني، الذي انتشل البلاد من أوحال قانون أمن الدولة سيئ الصيت، كي يدخلها في مرحلة جديدة نعمت فيها البحرين بالعمل البرلماني لفترة طويلة غير مسبوقة، وانتعشت فيها الحركة السياسية العلنية التي كانت تئن تحت بطش مواد قانون أمن الدولة. ليس القصد هنا الدخول في تفاصيل تقويم المشروع الإصلاحي، ولا سرد العوامل التي تقف وراءه، لكن ما تتفق عليه الغالبية هو تأسيسه لحياة برلمانية وضعت العمل السياسي البحريني على أبواب مرحلة مختلفة، ومن ثمّ فهو من المبادرات الإيجابية الناجحة التي عرفها تاريخ البحرين المُعاصر.

المبادرة الأخرى التي تختلف عن مُبادرة مشروع الميثاق الوطني هي مبادرة الوثيقة الشعبية التي تقدمت بها "لجنة الوثيقة الشعبية" في التسعينيات من القرن الماضي، والتي تحولت في فترة لاحقة إلى ما عرف باسم الوثيقة النخبوية. لم يحالف الحظ تلك الوثيقة، رغم تضحيات من رفعها، وإصرارهم الشديد على إقناع السلطة حينها بضرورة الوصول إلى حل وسط بشأن المطالب العادلة التي حملتها.

القصد من وراء الإشارة إلى الوثيقتين: ميثاق العمل الوطني، والعريضة الشعبية، هو التأكيد على حقيقتين مُهمتين في تاريخ البحرين المعاصر: الأولى أنّ هناك إرثا سياسيا في العمل السياسي المُبادر، والثانية أنه بينما عرف البعض منها النجاح الملموس، كان مصير الآخر التعثر لأسباب خارجة عن نوايا من يقف وراءها.

والسؤال الطبيعي والمنطقي الذي يفرض نفسه هنا هو: ما هي عوامل فشل أو نجاح أية مبادرة سياسية؟ يضمن نجاح أية مبادرة، أو يقود إلى فشلها توفر مجموعة من العوامل، البعض منها ذاتي، والآخر موضوعي، يمكن حصر الأهم بينها في النقاط التالية:

1- وصول موازين القوى بين أطراف الصراع، أو على الأقل الطرفين الرئيسين فيه، إلى قناعة راسخة بأنه ليس أمام أي منهما طريق يمكن أن يسلكه وحيدًا دون الآخر للخروج من الأزمة، ومن ثم فهناك ضرورة مُلحة تفرضها الظروف القائمة لسير كليهما سوياً في الطريق ذاتها من أجل الوصول إلى حل وسط بين مشروعيهما. ليس المطلوب هنا تساوي أو تطابق درجة الاقتناع. كل ما هو مطلوب هنا هو البحث الجاد عن وسيلة تقرب الواحد من الآخر. وليس هناك ما هو أفضل من مبادرة أحد الطرفين بالتقدم بمشروع يضع حدا لأوجه الصراع، سلمياً كان ذلك الصراع أم صداميًا.

2- نضج الطرف الذي أخذ على عاتقه أخذ زمام المبادرة، والتقدم بمشروع يلائم الظروف، ويقلص من حضور عناصر الخلاف التي تقود إلى التأزيم، بحيث تشجع بنود الحل أطراف الصراع، كل على حدة، على تقديم بعض التنازلات التي لا تتنافى بشكل مطلق مع مشروع ذلك الطرف الخاص به.

3- توفر الكتلة التاريخية، سواء في شكل مجموعة منظمة أو فرد مُتميز، مؤمنة بضرورة المبادرة وجدواها، وقادرة، بفضل الثقل الجماهيري الذي تحظى به في صفوف مختلف الأطراف المتصارعة، على إقناع تلك الأطراف، أو دوائر صنع القرار في صفوفها بمقترحات المبادرة، ومن ثم موافقة تلك الأطراف على الجلوس إلى طاولة حوار ناضج ومثمر يقود الجميع نحو الحل المطلوب الذي يفترض أن تكون المبادرة قد سبقت الجميع إلى تلمسه.

4- قدرة هذه الكتلة التاريخية على تحجيم، إن لم يكن إقصاء، حفن الانتهازيين والمُتسلقين والمستفيدين، من حالة اشتداد وتيرة الصراع الذي يفتح أمامهم فرصة ثمينة لتجيير الأوضاع لصالح أهدافهم الضيقة. فهذه المخلوقات الطفيلية، هي الأكثر نشاطاً في مثل هذه المرحلة، ومن ثم تبرز الحاجة الملحة إلى قطع الطريق على مُبادراتها، التي تحرف الأنظار عن تلك المبادرة الجادة الباحثة بصدق عن مشروع وطني ينتشل البلاد من الأزمة التي تعاني منها.

5- عدم تضارب الحل الوطني بشكل صارخ مع اتجاه سير حركة الأوضاع الإقليمية، ومصالح القوى الأكثر حضورًا في رسم مسارها، التي من شأنها متى ما شعر أحد أطرافها بتهديد المبادرة المحلية لمشروعه أن يضع العصا في دولاب تلك المبادرة الوطنية كي يضمن فشلها، أو يؤمن عدم تقدمها. ولا بد من التحذير هنا، من الانزلاق في زيادة وزن هذا العامل.

لربما قراءة متأنية موضوعية غير منفعلة للنقاط أعلاه تؤكد أنّ زمن المبادرات ما يزال قائماً وملحًا، ومن ثم تساعد تلك القراءة قبول أطراف الصراع على الاقتناع  بحاجة البحرين اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى،  إلى مبادرة وطنية قادرة على انتشال البلاد من أزمتها الطاحنة، آخذة في عين الاعتبار تعزيز العوامل الأساسية التي يمكنها إنجاح مبادرة، وتقليص حضور الأخرى التي من شأنها إجهاضها.