عروب تاج الدين .. كيف نشكرك؟

جمال القيسي

قليلة هي المرات التي تبدأ فيها ليلك بكتاب يأسرك، فيجبرك على أن تضحي بساعات راحتك ونومك، لأن ما تقرأ أجمل من الراحة، وأهنأ من النوم.

قبل ليال، ارتشفت كأس كتاب مدهش جديد. كتاب حقيقي، ووثيقة صحفية نادرة، وسيرة إنسانية لافتة. أمّا صاحبة الفضل في صدور الكتاب فإنّها الزميلة الإعلامية المتميزة "عروب تاج الدين"، وهي ابنة صاحب كتاب (أعلام وإعلام) الأستاذ تاج الدين عبد الحق، رئيس تحرير شبكة إرم الإخبارية في أبوظبي.

أمّا كيف أنّ الابنة الثانية، هي "سيدة الفكرة" في أن يرى كتاب والدها النور، فيصدر "سيرة ذاتية" رائقة عن "دار نهضة مصر" العام الجاري؛ فإنّها قصة طريفة، وتدفع على الدمع فرحا، ولن أفسد الحكاية هنا، فـ "تلك قصة تروى" كما يقول المؤلف، سيد الحكايات الحنونة!

يرصد الكتاب بـحدود 250 صفحة "مسيرةً امتدت لأكثر من أربعين عاما في بلاط الصحافة العربية، يوم كانت حروفها تكتب وتجمع من الرصاص المذاب في عملية طويلة ومعقدة، إلى أن أصبحت تقرأ عبر الانترنت بعد لحظات من كتابة الحرف الأخير".

حين تشرع في قراءة الكتاب، يداهمك المؤلف في كل فصل بأكثر من خَضّةٍ نفسية جميلة، وذلك عبر الأسلوب الصحفي المباشر، ثم القَفْلة القصصية المفاجئة؛ حيث يجمع المؤلف، باحتراف لافت، بين أداتي الصحفي والقاص، في إيصال ما يريد هو أن تصل إليه، لا ما تريد أنت وتتوقع. وكما بأسلوبه الصحفي المعتاد في مقالاته يحدثك المؤلف بهدوء، وكلام واضح، ولغة بيضاء لا شيةَ فيها، فتستوعب الحدث، ومن، ومتى، وكيف، وأين، ثم يترك لك بعد ذلك أن تتساءل باستمتاع، وفضول: لماذا؟ فتبتسم رغما عنك لأن الأمر بات مفتوحا على احتمالات متعددة. قد يساعدك، المؤلف، أحيانا، لكنك في أحايين أخرى، تتساءل بلهفة القارئ الفضولي اللحوح، ماذا بعد ذلك؟ أو: لماذا هذه الحكايات من نوع: (ليست قابلة للنشر)؟!

الإمضاء الصحفي والقصصي، في آن معا، واضح في خاتمة كل جزء من الكتاب، والحس الإبداعي من خلال السرد والالتقاطات الأدبية، واضح في الكثير من الفصول، ومع اللمسة الأدبية يوثق الصحفي اللحظة التي يعايشها، وهناك في الكتاب عشرات الأمثلة لكن تحتم أدبيات المقال عدم إفسادها على من لم يقرأ (أعلام وإعلام) بعد.

وفي غمامة هذا التساؤل، بين الأدب والصحافة، يكتب المؤلف: "يقال إنّ كل صحافي هو مشروع أديب، إلى أن يثبت العكس، وأن كل أديب هو صحفي إلى أن يشتهر أو يعتزل". جاء هذا الاقتباس في مقالة بعنوان (نعمة الإبداع وبريق الصحافة) ص 31-33. وهي مقالة زاخرة بالأفكار الواضحة، ومدججة بالأمثلة والأسماء، والحوادث، وليست كلاما مرسلا على عواهن ملء السطور.

أزعم بعد قراءة (أعلام وإعلام)، ومقالة (نعمة الإبداع وبريق الصحافة) أن المؤلف أديب ملثم في مملكة صاحبة الجلالة، وهو تجاسر، زمنا طويلا، على رغباته الجارفة، وحقيقة أن الأدب يأخذ منه كل مأخذ، لكنه قام تأجيل حبر الأدب (كرمى لعين الصحافة).

ألا من فلتاتهم الإبداعية الأدبية الفريدة التي لا تكون إلا لهم، يعرف الأدباء الملثمون في بلاط صاحبة الجلالة! لكن زعمي، بأن الأستاذ تاج الدين عبد الحق يغلب الأديب فيه على الصحفي، تدحضه حجة قوية، من حصن إعلامي حصين راسخ، اسمه الأستاذ عبد الرحمن الراشد الذي يقول على غلاف كتاب (أعلام وإعلام) عن الأستاذ تاج الدين عبد الحق: "لا أعتقد أن صحافيا لاحق الأخبار، ورصد الظواهر، وعبّر عن أفكار ورؤى- في الخليج عموما، والإمارات تحديدا- مثل زميلنا تاج... وكل من اشتغل في المنطقة يعرف أنه من السهل أن تكون صحافيا لامعا في بيروت أو القاهرة حيث تشرع لكل إعلامي الأبواب، ويشارك في أدق التفاصيل، أما في الخليج فالأسوار عالية ومغلقة".

بعد هذا السرد المدهش، المتمكن من عناصر القص الحداثية، بصورة لا تضاهى، في (أعلام وإعلام)، فليسمح لنا الأستاذ عبد الرحمن الراشد بسؤال: هل سَرقتْ الصحافة الأستاذ تاج الدين عبد الحق من الأدب، دون علم أحد، فلبث في سجن الصحافة بضعة عقود؟ أم أنكم (ذاك الرعيل)، دبرتم بليل وبريق الصحافة، أسره بين أسوار صاحبة الجلالة كل هذه السنين؟!

ثمة لبسٌ بين الأدب والصحافة. العلاقة بينهما شائكة؛ فما أشد ارتباك المشاعر بين لسعة الخوف والشوق للعشيقة، وبين المحبة العميقة للزوجة، والتأنيب الساذج للضمير.

كتاب "أعلام وأعلام" فسحة لاستنشاق نسيم الذكريات الحميمة، ولن أقول يذكرنا بـ "الزمن الجميل"، لأن العبارة استهلكت كثيرا، بل أقول إن الكتاب يخرج من حيز الزمن والجمال، ليحتل مكانا قصيا في القلب، نشكر مؤلفه الذي أنطقته "عروب" كي يقول: عشتُ حرا مبدعا، ولم أفوّت لحظة ثمينة. فأتيتكم منها بقبس الحكمة، وشعاع التجربة. وما يزال في الذاكرة المدججة بأنهار الحياة الكثير الذي سيقال.

المقال لا يتسع لقراءة نقدية بدأتها عن (أعلام وإعلام) لكني أشير، وأنّى لي أن لا أشير، أن الكتاب الوازن، المهم، راق رجلا حقيقيا ومثقفا واعيا، غزير الاطلاع والمعرفة، وهو سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية الإماراتي الذي قال في خطاب رسمي شخصي موجه للأستاذ تاج الدين عبد الحق: "لا يسعني إلا أن أتقدم لكم بالشكر الجزيل على هذا الجهد".

هذا قول الشيخ عبد الله بن زايد، وهو الصحفي بالفطرة، حسب وصف الإعلاميين، هنا، في الإمارات العربية المتحدة.

ويظل للابنة الثانية الفضل في وصول صوت القاص والصحفي لمسامع قلوبنا. فكيف نشكر عروب؟

و للحديث بقية.

تعليق عبر الفيس بوك