لمن تركتني يا أبي !

سيف بن سالم المعمري

saif5900@gmail.com

لا أزال أبحث عن إجابة لسؤالي الذي خرجت إلى الدنياوأنا متعلق به، سألت أمي، سألت أخوالي وأعمامي وأخي الأصغر، وسألت الجيران، بل حتى أصدقائي في المدرسة يسألونني، وسألني معلمي ذات مرة : لماذا لم يأتِ أبوك إلى المدرسة؟ حملت سؤال معلمي إلى أمي، لكنها أغرورقت عيناها من البكاء وقالت لي بعد أن أصبحت في السادسة من عمري: يا بني إن أباك مات في حادث سير وأنت صغير لم يتجاوز عمرك السنتين ونصف السنة، أما أخوك الأصغر فكان في بطني في الشهر السابع، وهنا بدأ يجهش بالبكاء وهو يسأل: لمن تركتني يا أبي؟!

هذا واحد من المشاهد المؤلمة التي خلفتها لنا حوادث السير والتي كنّا بالإمكان أن ننسج بدلاً منها خيوط الحياة الجميلة لأطفالنا وأحبابنا، ونقص لهم قصص طفولتهم وشقاوتهم، ونشعرهم بدفء حضن الوالدين، وسنبقى معهم نلعب ونمرح حتى يكبروا ونرى أحفادنا ونستذكر أيام طفولة آبائهم ...

لكن .. هذه القصص لم يستوعبها شبابنا فلم يبالوا في الطرقات، نسوا أن هناك أمهات لا يهدأ لهن بال حين يخرجأبناؤهن من المنزل حتى يعودوا إليه، وآباء علقوا الآمال على من يرفعون أسماءهم ويفخرون بهم، وزوجات تناسينأتعاب حملهنينتظرن آباء أولادهن حتى يرجعوا من مقاصدهم،ليهنأوا معاً بأولادهم الذين لم يبق لهم إلا القليل ويخرجون إلى الدنيا.

ومن يتتبع الحوادثالمرورية التي تحدث في طرقاتنا يجد أن معظم المتسببين فيها هم من فئة الشباب من الذكور،ومعظمهم في العشرينيات من أعمارهم، فمنهم في سنوات المدرسة الأخيرة، أو في مراحل الجامعة وعلى وشك التخرج، أو الذي تخرج وينتظر فرصة العمل، أو ذلك الشاب الذي عقد قرانه، والآخر الذي أحتفل بزواجه منذ أسابيع أو أشهر قليلة مضت، وآخر مضى على زواجه عامان أو ثلاثة أعوام وهكذا، وآخر ينتظر مولوداً وهو في شهره الثامن والآخر ينتظر ابنه ليكبر والذي انقضى من عمرهثلاثة أشهر.

أما عن أسباب الحوادث المرورية التي تحدث في طرقاتنا فنجد أن السرعة المفرطة والانشغال بالهاتف وبكتابة ومتابعة المراسلات الكتابية، والتهور والتجاوز الخاطىء، والمباهاة بقصر زمن الوصول إلى المقصد والإرهاق والتعب والنعاس وقلة النوم والسهر هي الأسباب الموضوعية لوقوع الحوادث.

تناسى شبابنا أن تلك الأسباب لا قيمة لها إذا علم كل واحد منهم إنها قد تكون ثمناً غالياً يدفعهلحياته (هو)، ويترك من بعده والديه ينتحبون، ويرمل زوجته، وييتم أبناءه، ويحرم المجتمع من قوة شبابه ومعارفه، ويذهب مع الزمن في سجل الوفيات حيث كانوا، وفعلوا، وليتهم لم يفعلوا..

ورغم الجهود الكبيرة التي تبذلها السلطنة للحد من الحوادث المرورية والتي تضاعف مع التوجيهات السامية لعاهل البلاد المفدى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه ومتعه بالصحة والعافية والعمر المديد - في حديثهالأبوي الذي خاطب فيه جميع المواطنين أفرادًا ومؤسسات للمساهمة في الحد من الحوادث المرورية في عام 2009م والتي أصبحت قضية تؤرق المجتمع.

وقد كُللت تلك الجهود المباركة بانخفاض نسبة الحوادث المرورية والوفيات والإصابات خلال العامين الماضيين إلى 30% حسب الإحصائيات التي نشرتها شرطة عُمان السلطانية نتيجة تكاتف الجهود المجتمعية بشكل عام وجهود شرطة عُمان السلطانية بشكل خاص والذين يستحقون منا كل الشكر والتقدير على برامج التوعية من مواد إعلامية متنوعة والندوات والمحاضرات والمنشورات بالإضافة إلى الإجراءات القانونية لضبط السرعات المحددة في طرقاتنا وتفعيل لجان السلامة المرورية بجميع ولايات السلطنة والمتضمنة مسابقات وأنشطة متنوعة.

وكانت نتائج تلك الجهود مطمنئة للجميع خلال الفترة الماضية إلا أنه وخلال الفترة الزمنية من بعد عيد الفطر المبارك وحتى مطلع الأسبوع الجاري شهدت طرقاتنا حوادث مفجعة تزامنت مع فترة الإجازة الصيفية حيث وقعت حوادث أليمة في طريق أدم - ثمريت راح ضحيتها عدد من المواطنين وأبناء دول مجلس التعاون، علاوة على الحوادث المفجعة التي حدثت على طريق الباطنة، وطريق عبري - بهلا، وطريق قميراء - المري الذي يربط ولايتي ينقل وضنك، وطريق ضنك - الظويهرية بالإضافة إلى الحوادث الأخرى التي وقعت في مواقع مختلفة من ولايات عبري وينقل وضنك والبريمي ومحضة والحادث الأليم الذي وقع لحافلة المعتمرين العُمانيين بالمملكة العربية السعودية، ومن يلحظ معظم تلك الحوادث يجد أنها وقعت في طرقات ذات مسافات قصيرة لا تتعدى 100 كيلومتر إذا استثنينا طريق أدم - ثمريت.

وقد أديت واجب العزاء في سبعة من أولئك الشباب الذين قضوا نحبهم في ستة حوادث خلال أقل من شهر في الفترة الزمنية آنفة الذكر، وكفاني ما شاهدته من هول المصيبة في وجوه آبائهم، وأحبابهم، بل آلمني ما أخبرت به عن أحدهم لايزالفيالصفالحاديعشروآخر تخرج من دبلوم التعليم العام وقد تم قبوله في بعثة دراسية خارج السلطنة، وآخر ترك طفلة لم تتجاوز الأسبوعين من عمرها، ورابع ترك ثلاثة أطفال، وخامس ترك أماً مكلومة بفقده، وسادس ينتظر حفل زواجه، وسابع أنهى تدريبه بجهاز الشرطة.

ليس كل من يقضي نحبه في حادث مروري هو المتسبب فيه، ولكن من يركب الطريق عليه أن يكون بكامل وعيه حتى يسلم من شرور الآخرين، وإن كان المتسبب في الحادث أو غيره فكلاهماسيأتي ابنه في يوم من الأيام ويسأل: لمن تركتني يا أبي؟!

تعليق عبر الفيس بوك