البلسم الشافي 10(الجزء الثالث)

حَمَد الحوسني

أيُّها الكرماء، نبَّهنا في خاتمة لقائنا الماضي على أمر مُهم جدا؛ وهو أن العلماء والباحثين المسلمين الذين أفرطوا في موضوع الإعجاز العلمي لا يصح لنا أن نشكك في نياتهم بسبب ذلك؛ وإنما نحملهم على أحسن المحامل وأفضلها، مع قولنا بوجوب إنكارنا لخطئهم الذي وقعوا فيه.

وحديثنا وإن كان مُنصبًّا خلال هذه الحلقات من هذه السلسلة حول موضوع الإعجاز العلمي؛ إلا أنني أرى أن الضرورة الملحة تدعونا لنخصص جزءا منها للحديث حول قضية "سوء الظن، والتشكيك في نيات الآخرين"؛ بسبب وقوع كثير منا في هذا المرض، واستفحاله بيننا، وانتشاره في مجتمعات المسلمين؛ مما أدى إلى وقوع عواقب وخيمة؛ تمثلت في تقطيع الأواصر والصلات، وتوتر العلاقات، وفقدان الثقة بين الناس في كثير من الأحيان، وإضعاف أمة الإسلام، وتمكن عدوها منها.

ولا يمكن لشخص أن يبرر وقوعه في هذا الأمر بقوله: إن فطر الناس اليوم قد ضاعت، وضمائرهم قد ماتت؛ فوجب الحذر.

لا يصحُّ ذلك؛ فهنالك فرق كبير بين أخذ الحيطة والحذر وبين التشكيك في الناس واتهام نواياهم. ولعل بعضهم يستسيغ الوقوع في ذلك بداعي الاختلاف المذهبي بينه وبين الآخر؛ فلذلك تراه يعتبر الآخر عدوا له، وينظر إليه على أنه شر محض، وهذه هي عين الجهالة والحماقة، وإنها لقاصمة الظهر.

وها نحن اليوم نشاهد آثار ذلك السلبية الخطيرة في كثير من مجتمعات المسلمين. فكيف يعقل أن يعامل مسلم إخوانه المسلمين على أنهم أعداء له، ويسقط جميع حرماتهم وحقوقهم بسبب أنهم يخالفونه في بعض المسائل؟!

ألم يطرق مسمع من يفعل ذلك قول الله تعالى: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء: 92)، وقوله: "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" (المؤمنون: 52)، وقوله: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 130-105)، وقوله: "مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" (الروم: 31-32)، وقوله عز وجل: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (الأنعام: 159)؟!

بل قد يُؤدي به التعصُّب إلى أن يتحد مع أعداء المسلمين الذين يتربصون بالأمة جميعا الدوائر ضد إخوانه لذلكم السبب؛ فلله الأمر من قبل ومن بعد.

ولما كان العنوان العام لسلسلة حديثنا "البلسم الشافي" الذي نعني به "القرآن الكريم"، فإنه يجدر بنا أن نبدأ في تلمس الدواء الناجع للمشكلة السابقة من هذا النور الوضاء: "قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (المائدة: 15-16)، "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الأعراف: 157)؛ كونه أول مصادر التشريع الإسلامي، الذي أنزله الله تعالى وفيه حل لكل مشكلة، ودواء لكل معضلة.

تعليق عبر الفيس بوك