الوعي والثقافة المجزأة

 

 

صبحي حسن

هناك سؤال يثار حول ماهية الثقافة وما الفارق بينها وبين العلم والوعي؛ فهي مصاحبة للإنسان وملازمته منذ ولادته وحتى آخر يوم من حياته لا ينفك عنها، أشبه بالطعام لبقاء حياته.

والثقافة لغةً تعني الحذق والفهم، مشتقة من ثقف أي الفطنة والفهم والذكاء وسرعة التعلم، وتأتي بمعنى تسوية المعوج من الشيء، وبمعنى الظفر كما في قوله تعالى "فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ" (الأنفال: 57)، فالمثقف هو الشخص الذي يُعلم نفسه ويطورها ويرقى بفكره.

تتكون الثقافة من عنصرين، مادي ملموس كالآثار والمخطوطات، وغير مادي كالقيم والعادات والمعتقدات، وكلاهما يحتاج الى العلم بهما وتعلمهما، لذا فالثقافة مكتسبة وليست كامنة، يقول الله تعالى " وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (النحل: 78).

وهناك نوعان من الثقافة، تلقائية عامة يحصلها الإنسان من خلال بيئته ومنزله واختلاطه بالآخرين، وخاصة تحمل عمقا يتحلى بها بعض الأفراد من قبيل المهن التخصصية، ومجالات أخرى تحتاج إلى بذل مجهود ودراسة.

هناك غموض في بعض المجالات التي تحتاج إلى تمحيص ومراجعة، يتم إدخالها عنوة على أنها ثقافة كالطرب والطعام والمهرجانات والموسيقى والرقص، بينما يفترض أن تكون محصورة على كل ما يتم به تقويم الإنسان وتطويره فكريا وماديا ومعنويا.

العلم من جهة أخرى نقيض الجهل، هو إدراك الشيء على حقيقته، بحيث يؤدى إلى طريق ومنهج لبناء وتنظيم المعرفة العامة، ويتضمن الحقائق والمفاهيم والقوانين من نتاج البحث والتجربة، فهو كل علم ينتفع به، ليصار بعد ذلك إلى تفسير الظواهر والاحداث والتنبؤ بها.

عليه يمكننا القول بأن كل إنسان في الحقيقة مثقف، سواء أكانت ثقافته تلقائية أم تخصصية، ولا شك أن هناك تباينا وتفاوتا بين الإثنين في مدى العمق والإحاطة والاحتراف.

من الأمور التي باتت من الطقوس اليومية الشائعة بين الناس على اختلاف مستوياتهم ومشاربهم وانتماءاتهم، مطالعة الأخبار والمعلومات وكل ما هو جديد، ساعد على ذلك ظهور وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وسهولة استخدامها، أصابت مختلف شرائح المجتمع من الطفل حتى الشيخ.

ما يلفت النظر هو عدم وجود سقف محدد لتلك الممارسات بحيث باتت تأخذ وتبتلع جُلّ أوقاتنا، وولَّدت نوعا من التوتر والإنشداد عندما نكون بعيدين عنها، فلا حرمة للأوقات، وان كانت في دور العبادة، أو في التجمعات الاجتماعية، او حتى أمام مرأى من الناس والأهل.

ولكثرة ما نعيشه من هذه الكثبان الهائلة من المعطيات التي دُفـنّا فيها، نسينا الهدف، هل هو لاكتساب العلم أم الثقافة، أم أنه مجرد للتسلية وتمضية وقت؛ فهناك حاجة لتحديد سقف لكل ما نقوم به، بترشيد الإبحار وسط هذا التيار الجارف. نعيش تشويشا ذهنيا من مطارق المعلومات، وبات من الأهمية بمكان تصفية أذهاننا من هذا الغبار، بممارسة حِمية نستعيد من خلالها لياقتها ورشاقتها وصفاءها الفطري، ولا يكون ذلك إلا عن طريق ممارسات صحية واعية، وعمل مضني على النفس لتهذيبها وتشذيبها.

مفردة الوعي، محل حديثنا، تعني اليقظة والإدراك الذاتي، والقدرة على استيعاب وفهم المحيط الخارجي والذات الداخلية، كما تعني الانتباه والاستجابة للمنبهات. إنه ليس إحساسا أو شعورا يربطك بالعالم الخارجي أو الداخلي فحسب، بل القدرة على فهم الأفكار والمشاعر والسلوكيات بشكل موضوعي، وكيفية تأثيرها، فهو الحضور والانتباه. العلم والثقافة هما المواد الأولية ومحركات باعثة للوعي، فإذا لم يؤديا دورهما، فانهما سوف لن يزيدا منسوب رقينا وتكاملنا الانساني، أشبه بالمعلومات التي تدخل من أذن وتخرج من اخرى.

الثقافة المجزأة هي أن ناخذ بعض المعلومات والأخبار نخرجها من سياقها، ثم نقدمها جاهزة ساخنة على طبق من التشتت، هذا ما تقدمه لنا مواقع التواصل الاجتماعي. أما العلم فانه يعطينا نظرة سطحية للأمور والأشياء، بينما الوعي يمثل عمق النظر لفهم الأشياء واستنباط ما يصلح منها.

الدراسة وطلب العلم لم يعدّا من الأمور التي تستهوي الكثيرين، فقد أصبحت من الطقوس الإجبارية وروتين لابد أن يمر به كل شخص على هذه الارض على اختلاف الجغرافيا واللغة، نقوم بهما تلقائيا بمجرد أن يبلغ الطفل سن الرابعة أو السادسة، حتى الرابعة والعشرين من العمر، رغم أهميتهما القصوى، والسبب لأننا أضعنا الهدف ضمنيا، وان كان الظاهر هو الثقافة والعلم.

وبتقديري فان الدراسة سواء أكانت كلاسيكية ام جامعية، ما هي في الواقع الا لفتح الشهية، لابد ان يتبعها الطبق الرئيسي حتى تكتمل الوجبة، وأعني بذلك الثقافة الكاملة التي تعتمد على القراءة المركزة، والبحث والتطوير المستمر. كم نحن غارقون بالروتين والأعمال التي نتقنها ونحبها وتستهوينا، يقول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور "الوعي يجعلنا غرباء في عالمنا؛ فالجهل يوفر لنا مأوى ومألوفية" وفي حديث عن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء".

الثقافة والعلم فعل تشاركي بين أفراد المجتمع وليس فعل أناني فردي محض، متاح للجميع يغرف منهما ما يشاء، مهمتهما النهائية ان يخرجا الانسان من شرنقة العزلة الفكرية الذاتية، بحيث يجعلاه ينخرط فى المجتمع بشكل فعال عن بصيرة ووعي. يقول الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغو "متاعب الوعي تكمن في أنه يفتح الباب للأسئلة الصعبة، والمشاكل التي قد تكون محيرة، ولكنها أيضا فرصة للتعمق في الذات واكتشاف إمكانيات جديدة".. إنها مسؤولية وأمانة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z