خالد بن حمد الرواحي
في أروقة المؤسسات؛ حيث تدور عجلة القرارات وتتشابك الملفات، يقف التدقيق الداخلي كحارسٍ صامتٍ لا يُسمع صوته كثيرًا، لكنه حاضر في كل التفاصيل. من يحرس المال العام حين ينشغل الجميع بالقرارات اليومية؟ هنا يظهر التدقيق الداخلي: خط الدفاع الأول ضد الهدر والخلل، والعين التي تلتقط الأخطاء قبل أن تتحول إلى فجوات تُهدد الثقة والأداء.
لم يعد التدقيق الداخلي مجرد أوراق تُراجع أو تقارير تُركن في الأدراج، بل أصبح جزءًا من صناعة القرار. إنه منظومة متكاملة تكشف مكامن الضعف وتضيء المساحات المعتمة، لتضع أمام المسؤولين بدائل واقعية ومؤشرات عملية تُعزز كفاءة الأداء. بهذا المعنى، لم يعد المدقق الداخلي "مُراقِبًا مُزعجًا"، بل شريكًا في التطوير والإصلاح، يعمل مع الإدارة لا ضدها.
وعندما يتعلَّق الأمر بالمال العام، تصبح المهمة أكثر حساسية. حماية الموارد ليست أرقامًا في جداول، بل قضية ترتبط بمستقبل الدولة واستدامة مواردها. تقرير تدقيق واحد قد ينقذ ملايين الريالات من الضياع، ويحافظ على ثقة الناس في مؤسساتهم. وهنا يتحول التدقيق إلى صمام أمان يمنع الانزلاق نحو الفساد أو الهدر، ويضمن بقاء التنمية على المسار الصحيح.
ومن حماية المال العام يتسع الدور ليشمل حماية الوطن ذاته. فالمؤسسات التي تُدار بكفاءة وشفافية تكون أكثر صلابة في مواجهة الأزمات، وأكثر قدرة على الصمود أمام الضغوط الاقتصادية. بهذه المعادلة البسيطة يتضح الأثر: الأمن يبدأ من الاقتصاد، والاقتصاد يبدأ من الحوكمة. والتدقيق الداخلي هو المفصل الذي يربط بين الثلاثة.
ومع التحول الرقمي، تعزّز هذا الدور بصورة غير مسبوقة؛ فالذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات أصبحا جزءًا من حقيبة أدوات المدقق؛ يتيحان رصد المخاطر لحظة وقوعها بدل انتظار نهاية العام. الأتمتة جعلت التدقيق أسرع وأكثر دقة، وحوّلته من وسيلة للكشف المتأخر إلى أداة للوقاية المبكرة والاستشراف. هكذا ينتقل المدقق من مراقبٍ لِما حدث أمس، إلى مستشرفٍ لما قد يحدث غدًا.
لكن الصورة لا تخلو من تحديات. بعض المؤسسات تُعاني نقص الكفاءات المتخصصة. أخرى تُقيدها تشريعات لا تمنح وحدات التدقيق الاستقلالية الكافية. وثمّة ثقافة إدارية في بعض الجهات لا تزال تنظر إلى المدقق كخصم يتربص بالأخطاء، لا كحليف يسعى إلى إصلاحها. ومع هذه النظرة، تضعف الجدوى مهما تطورت الأدوات.
ولذلك، فإنَّ الإصلاح المؤسسي لا يكتمل دون إعادة الاعتبار للتدقيق الداخلي. المطلوب تحديث أطر الحوكمة بما يكفل الاستقلالية المهنية، وبناء برامجٍ ممنهجة لتأهيل كوادر وطنية قادرة على استثمار أدوات التقنية الحديثة، واعتماد نهجٍ قائم على المخاطر يربط بين الأهداف والنتائج، إلى جانب ترسيخ ثقافة تنظيمية تعتبر التدقيق قيمة مضافة لا تهديدًا. عندها تصبح التقارير منصةً للتطوير، لا مجرد وثائق للأرشفة.
وفي سلطنة عُمان، حيث تُولي الدولة حماية المال العام وتعزيز الكفاءة المؤسسية مكانةً متقدمة ضمن أولوياتها، يبرُز التدقيق الداخلي كأداة رئيسية لتحقيق هذه الغاية: يعزز الشفافية، يرفع كفاءة الإنفاق، ويدعم الثقة بين المواطن ومؤسساته. هو استثمارٌ في الاستقرار لا كلفة عليه.
في النهاية، لا تُصان المجتمعات بالشعارات؛ بل بمؤسسات قوية ومُدقِّقين يحرسون في صمتٍ ما لا يراه الآخرون. وإذا مُنحت وحدات التدقيق ما تستحق من دعمٍ واستقلالية، ووُفِّرَت لها الأدوات والكوادر والرؤية، فإنَّ هذا الحارس الصامت سيبقى السند الأمين للمال العام، والركيزة الصلبة للأمن الوطني.