سلطان بن محمد القاسمي
لا يزال الإنسان يظن أنَّ النجاة تعني أن تمد له يد من الخارج، أن يأتيه من يخرجه من عمق التيه، أو يوقظه من غفلة طال أمدها، في حين أن أول النجاة تبدأ حين ينهض من داخله، حين يمسك بزمام روحه، ويقول لها: كفى، لا يليق بك هذا الانحدار، ولا يليق بك هذا الكم من التجاهل لذاتك.
وقد قال الله تعالى: ﴿وأنفقوا في سبيل اللَّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ (البقرة: 195)، وهو نداء قرآني عظيم يعلمنا أن ترك النفس في مواضع الضرر دون محاولة الخروج منها هو من التهلكة، وأن النجاة مسؤوليتك، لا مسؤولية غيرك.
وفي الحديث الشريف، يقول النبي- صل الله عليه وسلم-: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق" (رواه الترمذي). وهذا المعنى يعيد ترتيب أولوياتنا، فليس من القوة أن تتحمل ما لا يُطاق؛ بل من الحكمة أن تدرك متى تغادر، ومتى تنقذ نفسك.
فحين أصبحت المشاعر عملة متداولة في أسواق النفع، تساوم وتقايض كأنها لا تحمل وزن الروح، وحين باتت الأرواح تستنزف في حفلات التجمل الإجباري خلف أقنعة المجاملة وتكاليف التواجد، لم يعد إنقاذ النفس ترفا مؤجلا، بل ضرورة ملحة. ولم يعد الحفاظ على نقاء القلب خيارًا ناعمًا؛ بل عبادة صامتة، وفريضة باطنة تمارس في خفاء، حماية للروح من الانطفاء، وضمانا لبقائها حية وسط زيف الشعور، وكثرة المتقنين لفن الادعاء.
انجُ بنفسك من أماكن تطفئك، ومن أشخاصٍ يستهلكون ضوئك ليزدادوا بريقا، ومن أدوار أُلزمت بها دون أن تناسبك. انجُ من محادثات تشعر بعدها أنك بلا طاقة، ومن جلسات تُسفّه أحلامك، وتقلل من رؤيتك، وتعيدك في كل مرة إلى الخلف وأنت تبتسم مجاملة.
انجُ بنفسك من نفسك، من صوت داخلي يجلدك ليل نهار، من شعور مزمن بالذنب لأنك فكرت أن ترتاح، أو أنك قررت أن تنصت لصوتك لا لصوت الآخرين.
ولنا في التاريخ عبرة. ألم يكن يوسف عليه السلام في قصر العزيز؟ في مكان تغدق فيه النعم، وتُقدَّم فيه المناصب، ومع ذلك قال قولته المشهورة: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ (يوسف: 33). السجن كان في ظاهره ألمًا، لكنه في باطنه نجاة؛ لأن البقاء في مكان يغتال القيم ويهدد الطهارة أشد خطرا من ظلمة الزنزانة. وهذه هي النجاة الحقة: أن تختار ما يبقي روحك حية ولو كلفك ذلك عزلة مؤقتة أو طريقًا شائكًا.
وفي سيرة النبي- صل الله عليه وسلم- ما يُدهشك ويُلهمك؛ إذ خرج من مكة وهي أحب البقاع إليه، لأنها لم تعد تشبهه، لم تعد تتسع لرسالته؛ فاختار الهجرة لا فرارًا؛ بل بقاء للرسالة. لقد نجا بنفسه وبمن آمنوا معه، ليؤسسوا في المدينة وطنًا جديدًا، وميلادًا مختلفًا، وتاريخًا عظيمًا.
وحتى في زماننا، نرى من اختاروا النجاة على حساب الاعتياد، من نهضوا من بين الركام وقرروا ألا يكونوا ضحية لما اعتادوه. هناك من خرجوا من وظائف تآكلت فيها أحلامهم بصمت، ومن صداقات كانت أشبه بعبء يومي يثقل صدورهم كلما حاولوا الابتسام، ومن علاقات تُطفئ ببطء أنوار قلوبهم، حتى كادوا ينسون كيف يبدو وهجهم.
نسمع عمَّن غادروا مدنا بأكملها لا لكرهها، بل لأنهم لم يعودوا يرون أنفسهم فيها. ومنهم من غير عاداته كلها، كمن يغسل روحه من ماضيه، أو أعاد ترتيب تفاصيل حياته كما يرتب أحدهم مكتبا ظل يعاني من الفوضى طويلا، ثم جلس أخيرا ليمنحه النظام الذي يستحقه.
وهناك من لم يهاجر خارجيًا؛ بل خاض هجرته الكبرى داخله، من قاطع جلسات لم يعد فيها شيء يبقيه، واعتذر عن تواجد بلا جدوى، وسحب نفسه من مواقف ترهق روحه في كل مرة.
أحدهم كان يعيش في صخب المجتمع، مُحاطًا بالناس، لكنه كل يوم يعود لبيته أكثر فراغًا. قرر أن يبتعد، أخذ إجازة مفتوحة من كل شيء. هاتفه مُغلق، حساباته في سُبات، واختلى بنفسه. بعد شهور عاد، لكنه لم يعد كما كان؛ عاد ناضجا، صافيا، متصالحا مع ذاته، يعرف حدوده، يختار من يحب، ويبتعد بلباقة عن كل ما يثقله. لم يكن تغيره مفاجئا، كان فقط استجابة لنداء واحد: "انجُ بنفسك".
النجاة هنا لا تعني أن تكون قاسيًا، ولا أن تنغلق، ولا أن تقطع كل شيء، النجاة أن تعرف متى تتوقف، ومتى تقول لا، ومتى تعيد رسم حدودك، وتبني حياة تشبهك، لا تستهلكك.
وإن أعظم الانتصارات ليست تلك التي تصفق لها الجموع؛ بل تلك التي تُعلنها داخلك، بصوتٍ لا يسمعه أحد. تلك اللحظة التي تنتشل فيها ذاتك من غرقٍ صامت، وتنهض من ركامك دون ضجيج، لأنك ببساطة أدركت أن البقاء في المكان الخطأ هو الفقد الحقيقي، وأن الاستمرار فيما يُطفئك هو الخسارة التي لا تُعوّض.
أن تنجو، لا لأن أحدًا مَدَّ لك الحبل؛ بل لأنك قررت أن لا تُكمل الغرق، لأنك اخترت الحياة من جديد بثمنٍ لم يدفعه سواك، وبوعي لم يكتبه أحد لك، سوى قلبك.
انجُ بنفسك.. لأنك حين تفعل، تبدأ الحكاية من جديد، ولكن هذه المرة، بيديك.