سطرٌ أخير لم يُكتب

 

 

سلطان بن محمد القاسمي

بين كل بداية ونهاية، هناك حكاية تروى، وأخرى تُكتم، ولكن ما لا يُقال في العلن غالبًا ما يكون هو الأصدق؛ فنحن نعيش، نُحب، نتألم، ونمضي، ولكن قلّما نمنح أنفسنا فرصة للانفصال الواعي عن شيء قد انتهى في دواخلنا، وذاك القرار لا يُختصر في كلمة وداع، ولا في علامة نقطة؛ بل في لحظة وعي تختار فيها أن تغلق صفحة لا لأنها انتهت، بل لأنك اخترت أن تواصل.

وقد قيل في الأثر: "ما كان لك سيأتيك ولو بين جبلين، وما لم يكن لك لن تناله ولو كان بين شفتيك"، ولذلك ربما علينا أن ندرك أن التعلق بما فات هو إنكار لحكمة القدر.

إننا نُجيد البدء، ونعرف كيف نُقرّب الأرواح، ونلتصق بالذكريات، ونُراكم اللحظات، ولكن حين تحين لحظة التوقف، نرتبك، ونصمت، ونؤجل، ونختفي. وغالبًا ما نساوي بين الإنهاء والخسارة، وبين الحسم والخذلان. ولا أحد يحب أن يكون هو من ينهي شيئًا، حتى لو كان ذلك الشيء يؤذيه، ولذلك تُترك تفاصيل كثيرة في حياتنا عالقة، وكأنها تنتظر معجزة لتُحسم.

لكن الحقيقة التي لا مهرب منها هي أن ترك الأمور مفتوحة على مصراعيها، هو ما يجعلنا ندور في حلقات متكررة، في علاقات مهددة، وفي مشاريع مترددة، وفي قرارات مؤجلة، وفي ذكريات تتكرر بلا توقف. فنحن نظن أن تأجيل المواجهة يمنحنا راحة، لكنه في الواقع يمدّ الألم بخيطٍ أطول.

الله عز وجل يقول: ﴿وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم﴾، ولذلك ربما ما نُصِرّ على استمراره هو ذاته ما يُعيق أرواحنا عن النضج والتحرر.

وإن الأهم من لحظة الإنهاء ذاتها، هو أن نعرف متى نتخذها، وكيف، ولمصلحة من. فليس كل توقف نهاية، بقدر ما هو بداية أخرى. ومن يجرؤ على الاعتراف بأن ما لديه قد اكتمل، يمتلك الشجاعة ليبدأ من جديد، ومن يُغلق بابًا، يكون قد رأى ما يكفي ليختار غيره.

وفي هذا العالم المزدحم بالأحاديث المكسورة، وبالمواقف المعلقة، وبالعلاقات التي تتنفس على أجهزة الانتظار، يصبح القرار الحاسم نوعًا من التحرر. فأن تقول ما يجب أن يُقال، دون خوف أو خجل أو تردد، وأن تعترف أنك تعبت، وأنك لا تستطيع الاستمرار بنفس الطريقة، وأن تمنح نفسك الحق في اختيار مسار لا يشبه ما اعتدته، فذلك ليس ضعفًا؛ بل وعي.

وقد ورد في الحديث الشريف: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، ولذلك فالبقاء في منطقة رمادية لا يُنبت فيك يقينًا، بل يهدر وقتك وحياتك.

وقد يبدو ذلك قاسيًا، خصوصًا إن جاء بعد سنوات من المراهنة، أو بعد خسارة ثقيلة، ولكنه غالبًا ما يكون ضروريًا لبقائنا في وضع نفسي متوازن. فالنفس البشرية لا تطيق الاستنزاف المستمر، وإن لم نحسم ما يؤذينا، تحولنا إلى نسخ شاحبة من ذواتنا.

بل الأعجب من ذلك، أننا أحيانًا نُبقي قرار الخروج معلقًا بيد غيرنا، فننتظرهم ليأذنوا، أو ليعتذروا، أو ليفسحوا لنا الطريق. وهكذا نُسقط إرادتنا في أيديهم، فنظل محبوسين في انتظار شيء لن يحدث، أو لن يحدث كما نرجو.

لكن متى كان الخارج أكثر وفاءً منا لداخلنا؟ ومتى قرّر أحدهم بالنيابة عنا قرارًا ينصف أرواحنا؟ فإننا حين نُرجئ اتخاذ ما نعلم أنه الصواب، نطيل أمد التيه، ونمنح الحزن فرصة أكبر ليتمدد.

وقد قال أحد الحكماء: "ما دام القلب ينزف فليس ثمة جدوى من تضميد السطح"، ولذلك كثيرًا ما يكون الحسم الداخلي هو السبيل الأصدق للشفاء. فلا إعلان، ولا ضجيج، ولا مواجهات متأخرة… بل فقط إدراك داخلي أن الحكاية وصلت إلى منتهاها، لا لأنها فشلت، بل لأنها قالت كل ما عندها.

وليس الأمر مقصورًا على الجانب العاطفي وحده، فهناك محاولات لا تجد طريقًا للنجاح، ونعلم أنها أنهكتنا، ومع ذلك نُبقيها حيّة شكليًا. وهناك تصورات قديمة عن أنفسنا، لم تعد تعبّر عنا، ولكننا نستمر في تمثيلها لأننا لا نعرف غيرها.

وقد ذكر ابن القيم أن من علامات الصدق ألا تتعلق النفس بما مضى، بل تنشغل بتحقيق ما هو خيرٌ لها في القادم، وهذا المعنى جوهري حين نُفكّر فيما يستنزفنا ويُعيق ذواتنا.

فالتحوّل لا يتطلب خطابًا دراميًا، بل لحظة صدق مع الذات، وقرار يُتخذ في عمق النفس، لا يعوّل على رأي أحد، ولا يحتاج إلى موافقة الجماهير، وإنما هو لحظة نقاء نمنحها لأنفسنا.

وكم من أناس رحلوا دون أن يتصالحوا مع الماضي، وغادروا وفي قلوبهم كلمات لم تُقال، ومواقف لم تُفسّر، وأخطاء لم تُغتفر. فقد ماتوا وهم يحملون ثقلاً كان يمكن لهم أن يضعوه لو امتلكوا الشجاعة في لحظة مبكرة.

فامتن لنفسك إن استطعت أن تُنهي ما يرهقك، واعترف بما في داخلك دون تأخير، وسامِح أو ابتعد أو وضّح… فالمهم ألا تترك ما يجب إنهاؤه متعثرًا في المنتصف، لأن ما لا يُحسم، يعود إلينا بوجوه أخرى.

وتلك الرسالة التي ترددت في إرسالها، وتلك الكلمة التي كان يجب أن تُقال، وذلك اللقاء الذي لم يتم… فكل هذه مواقف لا تتعلق بالزمن بل بالإرادة. لأن الانتظار الطويل لا يصنع نهاية مختلفة، بل يضيف تعقيدًا إضافيًا على ما كان بسيطًا.

ولا تنتظر أن تتناغم الظروف مع مزاجك لتتخذ موقفًا واضحًا، فأحيانًا لا يأتي الوقت المثالي، ولكننا نصنعه حين نتصرف بما يتوافق مع قيمنا وقناعاتنا.

ومن اللافت أن بعض القرارات لا تُتخذ لإغلاق باب، بل لفتح مساحة في الروح. فأنْ تعترف بالحب إنْ كنت صادقًا، وأن تقول "أحتاجك" لمن تفتقده، وأن تعتذر لمن آذيته… فليست كل الخطوات الصادقة نهاية، بل أحيانًا تكون تصحيحًا لمسار مائل.

وقد يكون أجمل ما نفعله في حياتنا هو أن نتصالح مع فكرة الاكتمال، وأن نفهم أن ما مضى كان ضروريًا، ولكنه لا يصلح للاستمرار، وأن نأخذ ما تعلمناه ونمضي دون شحنات غضب أو لوم أو حنين أعمى.

فنحن لا نُبنى مما حدث فقط، بل مما اخترنا فعله بعد ذلك، وتلك الاختيارات الصغيرة، المتزنة، الهادئة، هي ما يشكّل جوهرنا الحقيقي.

ولا ننسى أن من توكل على الله كفاه، ومن سلّم قلبه لله هداه، فبعض الطرق تحتاج إلى يقين أكثر من التفكير، وثقة أكثر من التخطيط.

فلا تسمح لأحد أن يقرر متى تتوقف أو تستمر، وخذ قراراتك دون صراخ، وامضِ بها بقلبٍ مطمئن. وتلك اللحظة التي تعرف فيها أنك قلت كل ما عليك قوله، وفعلت كل ما عليك فعله… تكفي لتمنحك سلامًا يكفيك سنوات.

فليس ضروريًا أن تُخلّدك الكتب، ولا أن تُصفق لك المنصات، وإنما يكفي أن تكون أمينًا على نفسك. وأن تعرف متى تغادر، ومتى تبقى، ومتى تتجاوز، ومتى تعود.

لأن النهايات، في جوهرها، ليست نهاية للحياة، بل بداية لنُضج آخر… نُضج لا يحتاج شعارات، بل يحتاج قلبًا صادقًا يعرف أنه آن الأوان للمضي.

 

الأكثر قراءة