حين تُهذِّبُنا المواقف قبل العبادات

 

 

سلطان بن محمد القاسمي

 

نعيش هذه الأيام أوقاتًا عظيمة، وأزمنة كريمة، هي ساعات شهر رمضان المبارك، ودقائقه، وثوانيه الفريدة، وهي تمر سريعًا حتى لا تكاد تمسك إلا من حريصٍ ومثابر. فكم من شخصٍ أدرك رمضان العام الماضي وهو بيننا، ثم لم يُكتب له أن يشهده هذا العام، وكم من متمنٍّ أمله أن يبلغ هذه الأيام لينهل من بركاتها، لكن شاء الله له أمرًا آخر.

وشهر رمضان فرصة لا تشبهها الفرص، هي فرصة الروح لتنتعش، والقلوب لتبتهج، والنفوس لترتاح وتسعد. رمضان ليس مجرد صيام عن الطعام والشراب، بل مدرسة تربيةٍ عظيمة، تفتح أبوابها كل عام؛ لتهذب النفوس، وتعيد ترتيب الأولويات، وتغرس في الإنسان معنى العطاء، والرحمة، والصبر، والإحسان.

قبل أيام قليلة، شدني موقف لن أنساه، موقف علمني معنىً آخر من معاني الصيام، لا يُدرَك إلا بالتأمل والتدبر. كان ذلك في إحدى الليالي الرمضانية، عندما ذهبت إلى محل الخضراوات والفواكه لشراء بعض الحاجيات قبل الإفطار. المحل كان يعج بالناس، وكلٌّ منهم مستعجلٌ يريد إنهاء مشترياته سريعًا، فليس هناك وقت طويل قبل الآذان.

وقفت في الطابور عند الميزان، وكان أمامي رجلٌ مسن، يبدو عليه الإرهاق من الصيام، يحمل في يده بعض الخضراوات القليلة، وكان واقفًا بصعوبة، بينما يداه ترتجفان قليلًا وهو يحاول ترتيب الأكياس في يده. في تلك اللحظة، دخل شاب يبدو في عجلة من أمره، وبدون أن ينظر إلى الطابور، وقف مباشرة أمام الرجل العجوز ووضع سلة مليئة بالخضراوات على الميزان، متجاهلًا تمامًا من كان قبله.

نظر إليه العجوز بلطف، وقال بصوت هادئ لكنه يحمل في نبرته رجاءً واضحًا: "يا بني، أنا هنا منذ فترة، وقد تعبت من الوقوف، لو سمحت انتظر دورك". التفت الشاب إليه بنظرة ضيق وقال بلا اكتراث: "أنا مستعجل، ولن يأخذ الأمر إلا لحظة!". كنت أتوقع أن يغضب العجوز أو يحتج، لكن المفاجأة أنه فقط ابتسم قليلًا، وقال بصوتٍ هادئ: "الله يهديك، ويبارك لك في وقتك".

في تلك اللحظة، تدخل رجل آخر، يبدو أنه كان يراقب المشهد مثلما كنت أفعل، وقال للشاب: "أخي، كلنا مستعجلون، لكن لن ينقص منك شيء لو انتظرت دورك، هذا الرجل مسن ومتعب، ألا يستحق أن تقدم له الاحترام؟". صمت الشاب لبرهة، ثم تنهد وقال: "معك حق"، وعاد إلى الصف وهو يتمتم بكلمات خجولة.

ما شدني في هذا الموقف ليس فقط تصرف الشاب؛ بل ردة فعل العجوز، الذي لم يغضب، ولم يرفع صوته، ولم يرد الإساءة بمثلها؛ بل دعا له بالهداية، وكأنه يقول لنا جميعًا: "ليس في رمضان متسعٌ للغضب، ولا جدوى من الجدال".

تأملت هذا المشهد طويلًا، وأدركت كم نحن بحاجة إلى ضبط أنفسنا، ليس فقط عن الطعام والشراب، بل عن الأفعال التي تفقدنا روح رمضان الحقيقية. كم من شخصٍ يصوم عن الطعام، لكنه لا يصوم عن الأذى؟ وكم من شخصٍ يمسك لسانه عن الكذب، لكنه يطلقه في الغيبة والنميمة؟ فالصيام لا يكون صيامًا حقيقيًا إلّا إذا انعكس على سلوكنا، وجعلنا أكثر رقيًّا، وتهذيبًا، ورحمةً بالآخرين.

حين عدت إلى المنزل، جلست أفكر في هذا الرجل العجوز، ما الذي جعله بهذه الحكمة والهدوء؟ ربما هي تجارب السنين، وربما فهمه العميق لمعنى الصيام، وربما إدراكه أن رد الفعل لا يجب أن يكون دائمًا بنفس الفعل. حينها، تذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني صائم".

أخذتُ أتأمل هذه الكلمات، وكأنها نزلت في ذلك المشهد تمامًا؛ فالصائم الحقيقي لا يرد على الإساءة بالإساءة، بل يرتقي بنفسه فوق الانفعالات اللحظية، لأنه يدرك أن رمضان ليس ساحة للجدال؛ بل ساحة للتهذيب والتسامح.

بعد ذلك الموقف، قررتُ أن أراقب نفسي في رمضان، وأن أنتبه لكل فعلٍ يصدر مني، لكل كلمةٍ أقولها، وأن أجعل صومي تدريبًا حقيقيًا على التحلي بالحلم، والصبر، وضبط النفس. فكم من مشاحناتٍ تحدث بسبب أمورٍ تافهة؟ وكم من كلماتٍ نلقيها بلا مبالاة فتجرح قلوبًا لم تقترف ذنبًا؟ رمضان هو فرصة حقيقية لنراجع أنفسنا، لنرى أي جزءٍ منا بحاجة إلى إصلاح، وأي عادةٍ سلبية يجب أن نستبدلها بعادةٍ أفضل.

أدركتُ أيضًا أن الصيام لا يقتصر على الامتناع عن الأكل والشرب، بل يمتد ليشمل كل ما يجعلنا أقرب إلى الله، وأقرب إلى الناس بالمودة والرحمة. فكما أن رمضان يُعلِّمنا الصبر على الجوع، فهو يُعلِّمنا الصبر على أذى الآخرين، وكما أنه يدرّبنا على التحكم في شهواتنا، فهو يدرّبنا على التحكم في غضبنا، وكما أنه يجعلنا نشعر بألم الفقراء، فهو يزرع فينا الإحساس بآلامهم، ويدفعنا إلى مساعدتهم ولو بالكلمة الطيبة.

حين أفكر في ذلك الرجل العجوز، أشعر وكأنه أعطاني درسًا دون أن يقصد، فقد جعلني أُفكِّرُ في كم المرات التي غضبت فيها لأسباب تافهة، وكم من المرات التي رفعت صوتي في نقاش لا يستحق، وكم من المرات التي نسيت فيها أن الصيام تهذيب للنفس، وليس مجرد امتناع عن الطعام.

منذ ذلك اليوم، صرت أُذكِّر نفسي كلما واجهت موقفًا يستفزني أنني في رمضان، وأن عليّ أن أقول: "إني صائم"، ليس فقط بلساني، بل بقلبي، وسلوكي، وتصرفاتي. تعلمت أن رمضان ليس موسمًا مؤقتًا من العبادة، بل هو فرصة لإعادة ترتيب النفس، كما يعيد الإنسان ترتيب بيته ومكتبه، هو مساحة لتنظيف الروح من الشوائب التي علقت بها طوال العام، ليخرج منها الإنسان أنقى، وأهدأ، وأكثر سكينة.

ولذلك، قلت في نفسي: نعم، والله إنها لفرصة عظيمة، أن يعود المرء إلى نفسه، فيعيد ترتيب أوراقها، كما يرتب أوراق مكتبه، وألا يتركها مبعثرة، فتكثر الفوضى، وتضيع الأولويات، ويزيد في تنظيم النفس تعطيرها من أحلى الكلام، ورونقها بالذكر، لتطيب مدى الحياة، وتهنأ النفس، ويسعد الجميع.

ومع بدء هذا الشهر المبارك، أدركت أنني لا أريد أن تمر أيامه دون أن أستفيد منها بصدق، وأجعلها محطة لتغيير حقيقي. فما زلنا في بداياته، وما زالت الفرصة أمامنا لنغرس هذه الدروس في أعماقنا، ونعيش كل يوم فيه بروح رمضان الحقيقية، لا بروح العادة. إن لم نتعلم من رمضان كيف نكون أكثر حلمًا وصبرًا ورحمة، فمتى سنتعلم؟ وإن لم نهذب أنفسنا في هذه الأيام، فمتى سنفعل؟ لذا، عزمت أن أجعل كل لحظة من هذا الشهر بدايةً جديدة، وألا أنتظر آخره حتى أراجع نفسي، بل أجعل مراجعتي يومية، وأجعل التغيير تدريجيًا، ليبقى أثره حتى بعد انقضاء الشهر.

تقبل الله منا ومنكم، وأعاننا على اغتنام هذا الشهر بكل خير، وجعلنا من الذين يخرجون منه بقلوب أنقى، وأرواح أصفى.

الأكثر قراءة