الدورتان السنويتان: جسر بين التخطيط والتنفيذ ونافذة للتعرف على الصين

 

 

 

تشو شيوان **

في البداية أود تذكير القراء بأن "الدورتين السنويتين" هما الاجتماعان السنويان لكل من المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، وهو أعلى هيئة تشريعية في الصين، والمجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، وهو أعلى هيئة استشارية سياسية في البلاد، ويعد هذا الحدث أهم حدث سياسي وتشريعي في الصين كل عام.

وعندما نتحدث عن النظام السياسي في الصين، لا يمكننا تجاهل الهيئتين الرئيسيتين اللتين تشكلان ركيزة صنع القرار والتشريع في البلاد، وهما المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني والمجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني. وتمتد ولاية كل منهما لخمس سنوات، وخلال هذه المدة تعقدان دورة كاملة سنويًا لمناقشة القضايا الرئيسية التي تمس حياة المواطنين ومستقبل البلاد. ويضم المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني الحالي حوالي 3 آلاف نائب؛ مما يجعله أعلى جهاز للسلطة في الصين، أما المجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، والذي يضم أكثر من 2000 مستشار، فهو يُعد منصة مُهمة للتشاور السياسي؛ حيث يُقدِّم أعضاؤه مقترحات بشأن السياسات الوطنية الكبرى، ويتمثل دوره الأساسي في تعزيز مفهوم "الديمقراطية الشعبية الكاملة العملية" التي تعتمد على الاستشارة الجماعية في صنع القرار، تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني.

هذا النموذج الصيني يجمع بين التشريع والاستشارة في مزيج فريد من نوعه؛ حيث لا يقتصر الحكم على إصدار القوانين فحسب؛ بل يمتد إلى الاستماع لمختلف الآراء والنقاشات حول التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. وبينما يرى البعض أن هذا النهج يُعزِّز الاستقرار والاتساق في صُنع القرار، يعتقد آخرون أنه يحدّ من التعددية السياسية التقليدية التي تعتمدها بعض الدول الأخرى، وتبقى هذه الهيئات ركيزة أساسية في النظام الصيني؛ حيث تؤدي دورًا محوريًا في رسم سياسات البلاد، بما يعكس توجهات الحزب الحاكم ورؤيته لمستقبل الصين في العقود القادمة.

وفي ظل بيئة عالمية متقلبة ومليئة بالتحديات، تبرز الصين كقوة اقتصادية تتحدى حالة عدم اليقين من خلال تبني أهداف استباقية ومرنة تعكس نهجًا واضحًا وحازمًا نحو النمو. ففي وقت تشهد فيه الاقتصادات العالمية اضطرابات متزايدة بسبب التحديات الجيوسياسية والاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية، تقدم الصين نموذجًا يُحتذى به في كيفية التعامل مع هذه التحديات بخطوات استراتيجية مدروسة.

يمثل هذا العام، السنة الأخيرة من الخطة الخمسية الرابعة عشرة (2021- 2025)؛ حيث تدخل الصين مرحلة حاسمة لا تقتصر فقط على تقييم الإنجازات المحققة؛ بل تمتد إلى صياغة الأسس التي ستقود الخطة الخمسية القادمة. وفي هذا السياق، يرى المراقبون أن السياسات التي تم الكشف عنها في تقرير أعمال الحكومة ليست مجرد أدوات لدفع النمو المستدام في العام الجاري، لكنها أيضًا لبنات أساسية لبناء محرك التحديث الطموح الذي تسعى الصين إلى تحقيقه على المدى الطويل.

أحد المحاور الرئيسية التي تركز عليها الحكومة الصينية هذا العام هو تعزيز التنمية عالية الجودة، والتي تتجلى في مجموعة من الأولويات الاستراتيجية. ومن بين هذه الأولويات تحفيز الطلب المحلي، الذي يُعد ركيزة أساسية لتعزيز النمو الاقتصادي الداخلي، وتطوير القوى الإنتاجية الحديثة التي تعتمد على الابتكار والتكنولوجيا المتقدمة. وهذه الجهود لا تُعزز فقط القدرة التنافسية للاقتصاد الصيني، بل تسهم أيضًا في تحقيق التوازن بين النمو الكمي والنوعي.

من وجهةِ نظرٍ تحليلية، يمكن القول إنَّ الصين تعيد تعريف مفهوم النمو الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين، فبدلًا من الاعتماد على النمو السريع الذي يُركِّز على الكَمِّ، تتجه البلاد نحو نموذج أكثر استدامة يعطي الأولوية للجودة والكفاءة والابتكار، وهذا التحول ليس فقط استجابة للتحديات الداخلية والخارجية؛ بل هو أيضًا رؤية استراتيجية تهدف إلى ضمان أن تظل الصين لاعبًا رئيسيًا في المشهد الاقتصادي العالمي.

ووفقًا للكثير من تحليلات الخبراء، نجد أن هناك توافقًا كبيرًا في استمرار الصين كمحرك رئيسي للنمو الاقتصادي العالمي. وبحسب تقرير أعمال الحكومة المُقدَّم يوم الأربعاء (5 مارس)، فإن الطلب المحلي سيصبح المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، وسيتم إصدار سندات خزانة خاصة طويلة الأجل بقيمة إجمالية تبلغ 300 مليار يوان لدعم برامج تجارة السلع الاستهلاكية. وإضافة إلى ذلك، أدّت الصين دورًا محوريًا في دفع عجلة التجارة الدولية من خلال مبادرات مثل مبادرة "الحزام والطريق"، والتي ساعدت على تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول النامية والمتقدمة على حد سواء. وهذه الإنجازات تجعل الصين شريكًا اقتصاديًا لا غنى عنه في المشهد العالمي، وتؤكد مكانتها كقوة اقتصادية عظمى تسهم بشكل فعال في تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي.

في النهاية.. يمكن القول إنَّ الصين ومن خلال سياساتها المرنة والاستباقية، لا تواجه التحديات الحالية فحسب؛ بل تُعد نفسها أيضًا لقيادة مرحلة جديدة من النمو الاقتصادي العالمي؛ حيث تصبح التنمية عالية الجودة والابتكار والانفتاح على المستوى من المحركات الرئيسية لإحراز التقدم. وهذا ما يجعل الصين نموذجًا يُدرس في كيفية تحويل التحديات إلى فرص، وبناء مستقبل اقتصادي أكثر استقرارًا وازدهارًا، ولهذا يُمكننا القول إن الدورتين السنويتين جسر بين التخطيط والتنفيذ، وأيضًا نافذة للتعرف على الصين بشكل شامل.

** صحفي في مجموعة الصين للإعلام، متخصص بالشؤون الصينية وبقضايا الشرق الأوسط والعلاقات الصينية - العربية

الأكثر قراءة