أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي **
من أكبر التحديات التي تُواجه المُجتمعات المُختلفة، هو الحد الفاصل الذي يجب أن يعد الخروج عليه مروقاً من قيم ومبادئ المجتمعات، ويسبب ضررا بليغا بالإنسانية ويجب التوقف عنده.
فكثيرا ما يتم وضع خطوط حمراء على أفكار وعلى تقنيات ومنتجات يتم تطويرها، بل وأحياناً تتم معاقبة أصحابها.
لكن ومع مرور الوقت تكتشف تلك المجتمعات أنها أخطأت خطأ جسيما، وأنها وضعت خطا أحمر في غير موضعه، ووأدت الكثير من الأفكار التي كانت ستساهم في تطورها، كما أنها كممت أفواه الكثيرين من المبدعين الذي كتموا أفكارهم الإبداعية، ووأدوا نظرياتهم العلمية وتخلصوا من نتاجهم العلمي والأدبي بعد أن شاهدوا بأم أعينهم ما تعرض له المبدعون الذين طرحوا أفكارا مغايرة للمألوف وخرجوا بنتاج أدبي وعلمي لم تألفه مجتمعاتهم من قبل.
إن تاريخ العلوم مليء بقصص العلماء الذين تعرضوا لأبشع أنواع النقد والسخرية والازدراء من أوساط علمية ومن بعض رجال الدين ومن مجتمعاتهم بسبب أفكار أو تقنيات مبتكرة.
فعندما تم استخدام المواد المخدرة في العمليات الجراحية، وقف بعض رجال الدين وبعض الأطباء بل والمجتمعات ضدها ووجهوا نقدا لاذعا لاستخدامها، فلقد عد الألم الذي يتعرض له المريض جزءًا من العقوبة الإلهية وهو جزء من الغفران وجزء من العلاج أيضاً، ولا يعلم عدد الأفراد الذين تضرروا من جرّاء هذا المنع، لكن هناك وثيقة تاريخية تصف لنا حجم الألم الذي كان المريض يتعرض له أثناء القيام بالعمليات الجراحية دون تخدير، إذ ينقل لنا التاريخ عن الكاتبة "فرانسيس بورني" وهي كاتبة قامت بعملية لاستئصال الثدي عام 1811 بسبب ورم فيه، وبعد إجرائها لعملية الاستئصال، قامت بوصف الآلام التي تعرضت لها عند إجراء العملية في رسالة وجهتها لأحد أفراد أسرتها، فتذكر "بدأت بالصراخ الذي استمر دون انقطاع طوال فترة الاستئصال...كان الأمر مؤلماً جداً، لقد كنت أشعر بالسكين وهو ينخر عظمة الصدر ويكشطها! بينما كنت في حالة عذاب لا يمكنني التعبير عنها".
لكن كل التبريرات التي طرحها بعض رجال الدين والأطباء آنذاك ورددتها المجتمعات رميت اليوم في سلة المهملات وثبت الاكتشاف الهام الذي أنقذ الملايين من بني البشر، ولا أظن أن أحدا اليوم يجرؤ على القيام بعملية جراحية دون تخدير فهي من أهم الضرورات اللازمة للعمليات الجراحية.
وفي القرن التاسع عشر واجه الطبيب سيملويس أبشع أنواع السخرية والاستهزاء عندما اقترح عليهم فكرة غسل اليدين قبل إجراء العمليات الجراحية، ونعت بأبشع النعوت، حتى أصيب بمرض نفسي ويقال بأنَّه أصيب بالاكتئاب وانتحر نتيجة لذلك.
واليوم غدت الفكرة العلمية التي طرحها سيملويس إلزامية بل تصل إلى حد البداهة بالنسبة للكوادر الطبية.
وربما يظن البعض أنَّ المجتمعات البشرية تجاوزت ذلك اليوم وأن الاهتمام بالأفكار الجديدة، غدا موضع تقدير وتبجيل ولربما يكون ذلك صحيحا الى حد ما، لكن الأمر ليس على إطلاقه، فلقد تعرض علماء كبار لانتقادات عنيفة نتيجة لابتكارهم تقنيات ثورية عملاقة، فالعالمان اللذان كانا وراء تطوير تقنية "أطفال الأنابيب" تم إغلاق عيادتهما بالشمع الأحمر في بريطانيا لمدة عامين، وذلك في سبعينيات القرن الماضي، كما أن العالم الهندي (مكرجي) أحد العلماء الذين طوروا تقنية "التخصيب الصناعي" اعتبر مارقاً لأنه تدخل في اختصاص الآلهة ونبذه المجتمع الهندي حتى انتحر.
ومرة أخرى نجد أنَّ هذه التقنية التي عوقب أصحابها في ذلك الوقت، تم تكريمهم لاحقاً بجائزة نوبل وذلك بعد حوالي ثلاث عقود من معاقبتهم، وكأن البشرية قدمت اعتذرا لهم، واعترفت بخطئها بمعاقبتهم، فلقد شاهدت بأم أعينها فوائد هذه التقنية الجمة، وكيف أنها أحيت آمال الكثير من الرجال والنساء.
وقبل عدة أعوام قام الطبيب الصيني هي جيه كي بإجراء تعديلات جينية على طفلتين ولدتا عن طريق التلقيح الصناعي وذلك بهدف توفير قدرة أكبر على مقاومة مرض نقص المناعة (الإيدز) وتمت معاقبته بطرده من وظيفته، وبحبسه لمدة ثلاثة أعوام، فهل ستتراجع البشرية عن معاقبته بعد عقود من الزمن وتقدم اعتذارها له؟!
يبدو أن المبدعين يسبقون زمانهم بعقود من الزمن، بينما يظل الوسط العلمي بغالبه وأغلب المجتمعات البشرية قصيرة النظر لا تتجاوز أنظارها موطأ أقدامها.
ولكي تقل هذه الفروقات بين هؤلاء المبدعين وبين الوسط العلمي والمجتمعات البشرية، لابد من طرح الأفكار ومناقشتها على مستوى المجتمعات بصورة هادئة ورزينة ودون تشنجات من قبل أهل الاختصاص، ولا ينحصر النقاش في الوسط العلمي حتى لا تفاجئ هذه المجتمعات لاحقا بما يحدث، وتتولد لديها ردود فعل عنيفة تؤدي إلى كتم أفواه العلماء وتقييد حريات البحث العلمي، كما أن القوانين الحاكمة للبحث العلمي لابد وأن تكون سبّاقة وتضع ضوابطها بناء على ما يتم توقع حدوثه في البحث العلمي.
ولربما يرى البعض أن وضع الخطوط الحمراء على ما قد يشكل خطورة أهم وأجدى فدفع الضرر أهم من جلب المنفعة كما يقال، إلا أن علينا أن ننتبه إلى أننا عندما نضع خطوطا حمراء فإننا نتحمل مسؤولية جسيمة، فلربما كنا سببا رئيسيا للإضرار بالآخرين الذين ربما يستفيدون من ذلك الاكتشاف أو من تلك الفكرة لإنقاذ حياتهم من تحديات عملية يواجهونها أو أفكار تقض مضاجعهم، كما أن علينا أن ندرك أن المبالغة في وضع الخطوط الحمراء تؤدي إلى الجمود والتخلف، فالمجتمعات إنما تتطور بتطور أفكارها وإخضاعها للنقد والتمحيص والتجديد، وكلما زادت الخطوط الحمراء كلما زادت احتمالية تخلف تلك المجتمعات، لكن ذلك لا يعني إلغاء الخطوط الحمراء تمامًا، فالتحدي هو أن نضعها في المكان المناسب حيث لا فرط ولا تفريط.
فهل ستنجح البشرية أو بعض المجتمعات في المستقبل المنظور في الوصول لمستوى من الحكمة والمعرفة بحيث تضع خطوطا حمراء في مكانها الصحيح؟ أم أننا سنبقى نُواصل مُعاقبة المبدعين والاعتذار لهم بعد عقود من الزمن، فذلك ديدننا وطبيعة بشرية لن تتغير.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس