عائشة السريحية
الكلمات مرآة الأفكار، ووعاء المعرفة اللغة، وثوبها الزاهي البلاغة والفصاحة، واللغة عنوان الهوية، وَدليل الحضارة، وتعريف الأمة، ومتى اغترب اللسان اغترب القلب، ومتى اغترب القلب اغترب الفكر، وانسلخ من جلده شيئا فشيئا، فيضمحل ويصبح أثرا من بعد عين.
وأُمَّتنا العربية قد أُكرمت بلغة القرآن، لسان البيان، قال تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف: 2).
لقد حفظ الدينُ اللغةَ وحفظت اللغةُ الدينَ، وعلى مر القرون التي توالت، كنا أمة عظيمة حتى وإن ضعفت في العصر الحديث إلا أن تاريخها لا يمكن بحال أن يتم نسيانه أو تجاهله، بيد أننا وبأيدينا نسيء دون أن نشعر لهذه العظمة ولهذا المجد التليد، وباتت هذه الأمة تتنازل عن كنزها وجوهرتها النفيسة، وتستبدلها بلسان آخر أعجمي وليتها استبدلت الضعيف بالجيد.
الأسماء الأجنبية في شوارعنا، كظاهرة أشبه بما يُسمى بتأثير الفراشة، تلك الحركة البسيطة التي قد تبدو للعين غير ذات شأن، لكنها تؤدي إلى تغييرات عظيمة.
إن تغريب اللغة العربية تحت وطأة تأثير اللغة الإنجليزية ليس مجرد استبدال كلمات بكلمات، بل هو انسلاخ من الذات، وانحراف عن مسار الأمة الذي رسمته أقلام العرب وسطور التاريخ، يقول الشاعر جاك صبري :
أنا لن أخاطب بالرطانة يعربا // أو أستعير مترجمًا لبياني
أودعت فيك حشاشتي ومشاعري // ولأنت أمي والدي وكياني
لغة حباها الله حرفًا خالدًا // فتوضعت عبقًا على الأكوان
وتلألأت بالضاد تشمخ عزةً // وتسيل شهدًا في فم الأزمان
فاحذر أخي العربي من غدر المدى // واغرس بذور الضاد في الوجدان
وإذ نشعر بالأسى حيال ما يحدث من حولنا كجريان جدول ماء صغير لن يلبث حتى يصبح طوفانا كبيرا لن نقدر على صده إلّا بعد فوات الأوان، وكأننا نفتقر للغة ومفرداتها فتسمي شوارع ومناطق بأسماء ذكرتنا بقصة الغراب الذي قلد مشية الحمامة، ففقد هويته ولم يعد لا غرابَ ولا حمامة.
وذاك يتفنن بتسمية المحال تجارية والعلامات التجارية، ولوحات تصلب بلا خجل في الشوارع تحمل مسميات لاهي معربة ولا مغربة، كأن لغتنا لا تستطيع ترجمتها، أو كأن بلادنا حديثة العهد فلا تستطيع إلا استنساخ ماهو خارجها، فنقرأ وقلوبنا تعتصر ألماً، على سبيل المثال بوليفارد، سكوير، سيتي، داون تاون، آب تاون؛ بل هو شعور أصفه بالاشمئزاز، ولا نعرف كيف يتم تجريدنا من الهوية العربية العُمانية ونحن نرى تسلل هذه اللوحات إلى شوارعنا، فلم يعد يكفي أننا نتحدث في معظم يومنا باللغة الإنجليزية في العمل والشارع، وباتت لغتنا الأصيلة ضعيفة وهشة في أوساط المجتمع بالذات الشبابي، وربما يكون اللسان الأعجمي هو الأكثر شيوعاً بل أصبح بمثابة علامات التقدم والتمدن.
ورغم مدح اللغة من كثير من الشعراء واللغويين الذين لا يسعنا أن نذكر جميع ما قالوا، إلا أن تأثير العولمة والانفتاح قد أثر تأثيرًا مُباشرًا، تأثير القوي على الضعيف، والناجح على الفاشل، والمستعمر على المُستعَمر، وجعلوا من استخدام المفردات الأعجمية دليلًا على التطور والانفتاح والتمدن، وهم من كانوا في عصر الظلمات ونحن نقبع وسط النور.
وتراجع استخدام اللغة العربية في التعليم والحياة اليومية والعملية، يوهم أن اللغة العربية ضعيفة فقيرة، بينما نجد الأجانب يهرعون لتعلمها وإتقانها ودراستها، لمعرفتهم التامة بعظمة هذه اللغة وأهميتها وشموليتها.
وبنتيجة منطقية ولأنَّ اللغة هي أساس مرجعي ديني وثقافي، فإنَّ التغريب للغة يمكن أن يشعر البعض بفقدان هويتهم الوطنية، وهذا تدريجيا يأتي من الشعور بالاغتراب والانفصال عن الجذور الثقافية.
ولست في هذا المقال أعترض على تعلم اللغات الأجنبية أو عدم استخدامها، فأنا شخصيا أجيد التحدث والكتابة بها بطلاقة، لكن هذا ليس معيارا لأن استبدل هويتي لمجرد أنني استخدمت معجما آخر.
إنَّ سلطنة عُمان، من خلال تاريخها وأمجادها، ونشرها للغة العربية وللدين الإسلامي، خارج حدودها اليوم وسيطرتها على مساحات شاسعة وعظيمة كإمبراطورية لها ثقلها ووزنها، لا تتساوى مع غيرها فلكل قدر وميزان، ومن أجل هذا فتأثيرها يجب أن يكون إيجابيًا، وحفاظها على موروثها اللغوي والتاريخي، ذي أولوية وأهمية، حتى وإن رأى البعض أن تسميات اللوحات في الشوارع ومسميات المناطق، والتجمعات والمشاريع هي مجرد لوحات لا قيمة لها أو تأثير.
وكيف لمن يعتقد ذلك أنه لا تأثير ولا ضير، فهل وجدت في الدول المتقدمة التي تظنها أكثر مدنية مِنّا وتحضرًا، استخدموا لوحات الشوارع ومسمياتها الرسمية بلغتنا العربية؟
هل كانت المسميات الأجنبية صعبة لدرجة أن ترجمتها أصبحت غير ممكنة أو مستحيلة؟ هل كان هناك اعتلالا لغويا في فهم الكلمة وترجمتها باللغة الإنجليزية؟ فكل اللوحات السابقة بها معنيين الأول عربي والآخر للإجانب مكتوب بالإنجليزية.
ثم إن كتابة المفردة بنفس نطقها هو أمر غير مريح ولا مستحب.
يقول الشافعي: "ما جَهلَ الناسُ ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطو طاليس".
ولم يمدح اللغة العربية وجمالها العرب فقط؛ بل ذاب في عشقها المستشرقون، تقول الألمانية زيجريد هونكه صاحبة كتاب شمس العرب تسطع على الغرب: "كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم، وسحرها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صَرْعَى سحر تلك اللغة".
كما قال المستشرق الإنجليزي وليم بدويل: "إنها لغة الدين الفريدة، وإنها أعظم لغة للسياسة، من الجزائر السعيدة إلى بحر الصين".
فرفقًا بنا، وبقلوبنا التي تهيم عشقا في نعمة هذه اللغة، وراعوا فينا محبتنا وغيرتنا على لغتنا وهويتنا وإرثنا الثقافي والتاريخي والحضاري.