السنوار وصناعة الرمز

 

عائشة السريحية

 

الكيان الغاصب الإسرائيلي بعد أكثر من عام من جرائمه المتواصلة، والأسلحة المتدفقة له من الغرب في سبيل السيطرة والإخضاع لدول الشرق الأوسط، تعامل مع المقاومة في فلسطين ولبنان بقالبه الخاص، غافلا عن القالب العقدي الذي يعرف معنى القتال في سبيل الحق من منطلق ديني يصبغ معنى النصر الذي لا يقهره الموت.

ورغم ما فعله الكيان وعرّابه الأمريكي، من قتل قادة المقاومة، إلّا أن هذا الأمر ليس بجديد خلال عقود الاحتلال، فقد كانت الاغتيالات السياسية قائمة على قدم وساق، وما كان من اغتيالات لقادة المقاومة في فلسطين ودول محور المقاومة؛ إلّا صناعة لرموز خالدة، هي ذات الفكرة التي خلدت استشهاد حمزة بن عبدالمطلب في صدر الإسلام، وهي ذات الفكرة في تحويل استشهاد الحسين ابن علي سيد شباب الجنة، إلى رموز خالدة لم تنتهِ ولم تمُت، وهي ذاتها حين أُعدِم المجاهد الليبي عمر المختار، وكذلك حين استُشهد الشيخ أحمد ياسين، وأخيرًا القائد يحيى السنوار.. وما بين حمزة والسنوار قرون عديدة، إلّا أن الموت في ساحات المعارك لا يُعد نهاية مأساوية للقضية، ولا إحباطًا أو كسرًا للمقاومين بعدهم، فشعار كل مقاوم هو النصر أو الشهادة، وكلا الأمرَيْن فوزٌ، لتنتقل الراية من يدٍ لأخرى ومن مقاتل لآخر. وتختلف القضية في قبول الموت في سبيل الجهاد، حين تكون الصورة واضحة وجليّة، بين رجل صاحب أرض وحق، وعدو محتل مجرم مُغتَصِب، فلا تشويش في المعنى ولا فتنة يخشى المرء من الوقوع فيها. وانتقال الراية هي تمامًا ذلك النهج الذي اتخذه المسلمون في غزوة مُؤْتة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنْ قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة»، قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب، فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بِضْعًا وتسعين من طَعْنةٍ ورَمْيَةٍ".

هذه العقيدة القتالية الثابتة والراسخة تنفي دور الفرد في فهم دور الجماعة، فما هو إلّا مقاتل حامل للراية يبتغي الموت مُقبلًا غير مدبرٍ، ولا تنطبق على المقاومة ضد الاحتلال المجرم المفاهيم الغربية؛ بل على العكس تمامًا، يصبح من استشهد رمزًا خالدًا يستقي من خلفه القوة والصبر والثبات ليلحق من سبقوه، وما ضرهم اعتقاد غيرهم أنهم قد اغتالوا الفكرة، لأن الفكرة لا تموت، وقد رزحت الدول العربية تحت نير الاستعمار الأجنبي الظالم لعقود طويلة قبل أن تتحرر من استعمارهم وتغييرهم آيدولوجيات المجتمعات العربية، من تغريب للغة والثقافة والعادات؛ بل حاربت الدول المُستعمِرة، كل ما له علاقة بالفكر النضالي والمقاومة، فنجد أن التاريخ يعلمنا دروسًا واقعية في نهضات متجددة ترفض وجود السرطان الاستعماري، مهما طالت المدة ومهما كانت الطرق الغربية الخبيثة لاجتثاث الهوية العربية والإسلامية؛ بل إن حركات المقاومة في الوطن العربي شملت مقاومين من المسيحيين والتفوا مع المسلمين ضد المحتل كائنا من يكون، فلم يدم الاستعمار البرتغالي ولا الإيطالي ولا البريطاني ولا الفرنسي.

ومن السذاجة أن يظن الإسرائيلي أنه بقتل القادة قد انتصر، وأنه وأد الثورات ضده؛ بل على العكس تمامًا هو بهذا يصنع رموزًا تأخذ أبعادًا للشهداء أكبر مما لو كانوا أحياءً، وأن استشهادهم وهم في ساحات المعارك جعلهم خالدين وسيتناقل جيل بعد آخر سيرهم وبطولاتهم وأمجادهم، ولن تنزع أماكنهم من قلوب الذين عانوا الأمرين من الظلم و الجبروت.

إنَّ ما يفعله الكيان اليوم في ظل صمت دولي مريب؛ بل وتشجيع على قتل المدنيين في سبيل أن يحيا المحتل في بحبوحة من العيش، كما صرحت بذلك وزيرة خارجية ألمانيا بأنَّ بلادها لا تخجل من دعم إسرائيل الإجرامي في قتل المدنيين، رغم أن ألمانيا من الدول التي تتغنى بالدفاع عن حقوق الإنسان، وهذا ما يكشف لنا البُعد الخفي ليد الجريمة الدولية، التي لا تُقيم للإنسان العربي وزنًا، ولا تضعه في مكان يستحق الدفاع، وكأنَّ اللعبة باتت مكشوفة الأوراق، حتى وإن ظهرت بعض المواقف الرسمية على استحياء كما فعل مؤخرًا الرئيس الفرنسي الذي امتعض من حرب إسرائيل ضد لبنان داعيًا لوقف تمويل إسرائيل بالسلاح، وتلقى صفعة من نتنياهو في مسرحية هزلية بجدل على وسائل الإعلام، معلنًا أنه سيفوز بفرنسا أو بدونها، ثم نجد بذات الوقت التضييق على الكتاب والصحفيين في الإعلام الفرنسي ومفاصل الدولة وطردهم وحرمانهم من وظائفهم بسبب مواقفهم المعادية للكيان الإسرائيلي المحتل.

ولعلي أشير إلى ما حدث عقب اغتيال قادة حزب الله في لبنان حين انتشى الإسرائيليون بما فعلوا وظنوا أن لبنان بات لقمة سائغة، فاستشروا في حرق الأرض بحرًا وبرًا، وما كان الرد إلّا انتقال الراية وترتيب الصفوف، وما زال شمال فلسطين المحتل خاليًا من المستوطنين، وما زالت صواريخ حزب الله تدك معاقلهم، وما زال التقدم يمشي الهوينا فيتقهقر مُدبرًا عاجزًا عن تحقيق نصر على الأرض غير تلك اللقطات التي يصورونها في مسكن أو بيت على أطراف الجنوب اللبناني.

إن ما يحدث الآن من سيناريو تعده الولايات المتحدة الأمريكية بوضع منظومة الدفاع الجوي "ثاد"، متزامنة مع القتل المُمنهَج والإبادة الشاملة لسكان شمال غزة خصوصًا جباليا، وقصف الطيران الأمريكي لليمن بقاذفات "بي-2"، هو محاولة لكسر شوكة المقاومة قبل أن تبدأ خطوتها القادمة لضرب إيران، وهذا يشي بأنهم ما زالوا بنفس الفكر والعقلية، التي تظن أنَّ كمية المواد المتفجرة والأرض المحروقة هي السبيل الوحيد لبقاء الكيان واغتيال فكرة المقاومة.

إنَّ الرموز تبقى خالدة، وموت القادة لا يعني نهاية المقاومة، والأطفال والشباب والنساء وكل أصحاب الدم، لم يعد لديهم شيٌ ليخسروه، وأقسى أنواع الانتقام هو عندما يكون لشعب ثأر لم يُعد لديه ما يخشى أن يخسره، وأن يكون له رمز وقدوة استشهد في سبيل التحرير والحرية.