سلطان بن محمد القاسمي
في حياة كل منَّا، تأتي لحظات نواجه فيها قرارات تبدو بسيطة في ظاهرها لكنها تحمل تأثيرًا كبيرًا على مسار حياتنا وصحتنا النفسية. أحد هذه القرارات هو القدرة على قول "لا". قد يبدو الأمر سهلاً، لكنه في الحقيقة يتطلب شجاعة وإدراكًا عميقًا لأهمية الحفاظ على الذات وحمايتها من الاستنزاف غير المبرر. وفي مرحلة من مراحل حياتي، أدركت أهمية هذه الكلمة البسيطة، وكيف يمكن لها أن تكون درعًا واقيًا يحميني من الوقوع في دوامات من الالتزامات التي لا تتناسب مع قيمي أو تستنزف طاقتي بلا داعٍ.
ومع مرور السنوات وتراكم التجارب، وجدت نفسي في مواقف متعددة شعرت فيها بأنني مُجبر على قول "نعم" لأشياء لم أرغب في القيام بها، سواء كانت طلبات من الآخرين أو التزامات اجتماعية أو حتى مشاريع عمل لم تتوافق مع رؤيتي وأهدافي. كنت أعتقد أنني بقول "نعم" أُرضي الجميع وأكون الشخص المثالي، لكن مع الوقت، بدأت أشعر بأنني أضيع نفسي في هذه العملية، وأدركت أنني أخسر شيئًا ثمينًا: حق تقرير ما يُناسبني.
وبعد تأمل عميق، اكتشفت أنَّ الرفض ليس مجرد رفض لشيء مُعين، بل هو تعبير عن احترام الذات وفهم واضح لأولوياتي واحتياجاتي. إن الرفض لا يعني الأنانية، بل هو طريقة لحماية النفس من التشتت والإنهاك. وفي اللحظة التي نُدرك فيها هذا الحق، نتحرر من ضغوط التوقعات الزائفة، ونبدأ في توجيه حياتنا بما يتوافق مع رغباتنا الحقيقية.
لم يكن تعلمي لهذا الأمر سهلاً. فقد تطلب الأمر مواجهة الذات والتفكر في كيفية إدارتي لحياتي. بدأت ألاحظ أنني كنت أضع نفسي في مواقف لم أكن أريدها حقًا، وأنني كنت أضحي براحة نفسي لإرضاء الآخرين. هذا الإدراك كان نقطة تحول في حياتي، حيث بدأت أتعلم أن وضع حدود واضحة هو وسيلة للحفاظ على توازني الداخلي، وأنه ليس من الضروري أن أوافق على كل شيء من أجل الحفاظ على علاقات جيدة أو تجنب الشعور بالذنب.
وعندما بدأت أطبق هذا المبدأ، لاحظت أنَّ حياتي أصبحت أكثر تنظيمًا وهدوءًا. لم أعد أشعر بأنني مضطر للركض في سباق مستمر لإرضاء الجميع، بل بدأت أستثمر وقتي وطاقتي في الأمور التي تضيف لي قيمة حقيقية. شعرت بتحسن في صحتي النفسية، حيث تمكنت من التخلص من الشعور بالإرهاق والضغط. والأهم من ذلك، أدركت أنَّ العلاقات الحقيقية التي تستحق الاهتمام هي تلك التي تقوم على التفاهم والاحترام المتبادل، وليس على المجاملات الفارغة.
استعدت جزءًا من نفسي كان قد ضاع في زحمة الحياة والتزاماتها. وأصبحت أكثر قدرة على وضع حدود دون شعور بالذنب أو الخوف من إغضاب الآخرين. أدركت، بوضوح أكبر، أنني أتحمل مسؤولية حياتي ووقتي، وأنه لا يمكن لأحد أن يفرض عليّ ما لا يتماشى مع قيمي أو يهدد سلامتي النفسية.
ومع اكتسابي لهذه القدرة، بدأت أرى الحياة من منظور جديد. أصبح كل قرار اتخذه محكومًا بما يضيف لي شخصيًا، وليس بما يتوقعه الآخرون مني. أصبحت أولوياتي واضحة، وصرت أكثر انتقائية في كيفية قضاء وقتي ومع من أقضيه. في هذه اللحظات، أدركت أنَّ القدرة على الرفض هي أيضًا وسيلة لفتح المجال أمام قبول الأمور التي تهمني حقًا، تلك التي تنسجم مع أهدافي وتطلعاتي. بعبارة أخرى، هذه القدرة هي مفتاح للتركيز على الأمور التي تساهم في نموي وسعادتي.
ومن الأمور التي تعلمتها في هذه الرحلة أنَّ الرفض لا يعني بالضرورة قطع العلاقات أو خلق صدامات. بل يمكن أن يكون فعلًا محبًا ورحيمًا، تجاه نفسك وتجاه الآخرين. وعندما ترفض التزامًا لا يناسبك، فإنك تحترم ذاتك ووقتك، وفي نفس الوقت تمنح الفرصة لشخص آخر يُمكنه أن يلتزم بشكل أفضل. هذه النظرة جعلتني أفهم أن الرفض قد يكون في صالح الجميع، وليس مجرد حماية لذاتي.
تعلمت أيضًا أنَّ القدرة على الرفض يمكن أن تكون تمرينًا على الشجاعة والصدق. فكم مرة وجدنا أنفسنا نوافق على شيء ما لأننا خائفون من عواقب الرفض؟ لكن عندما تتخذ القرار بعدم الموافقة، فإنك تتحدى نفسك لتكون صادقًا مع رغباتك واحتياجاتك. وهذا الصدق مع الذات يعزز الثقة بالنفس ويمهد الطريق لعلاقات أكثر صدقًا وشفافية.
وفي سياق العمل المهني، أصبحت أكثر وعيًا بأهمية تحديد الأولويات والتخلص من المهام التي تستنزفني دون مردود يُذكر، سواء على المستوى الشخصي أو المهني. أدركت أنَّ التميز لا يأتي من قبول كل شيء، بل من اختيار ما يتناسب مع قدراتي وأهدافي. هذه الانتقائية جعلتني أكثر إنتاجية، حيث أصبحت أركز جهودي على المشاريع التي أؤمن بها وأستمتع بها، بدلاً من التشتت في مهام لا تضيف لي قيمة حقيقية.
وفي الختام، فإن القدرة على قول "لا" تعكس قدرتنا على إدارة حياتنا بشكل متزن. إنها تدل على أننا نعرف ما نريد، ونسعى لتحقيقه دون الانجرار خلف ما لا يناسبنا. إنها ليست مجرد كلمة تُقال في وجه الآخرين، بل هي بوصلتنا الداخلية التي توجهنا نحو حياة مليئة بالمعنى والرضا. عندما نصل إلى هذه المرحلة، نعيش الحياة التي نختارها بأنفسنا، ونعرف كيف نحمي سلامنا الداخلي، وكيف نكون أكثر صدقًا مع ذواتنا.
وبالتالي، يمكن القول إنَّ القدرة على اتخاذ هذا القرار تمثل خطوة كبيرة نحو النضج والاستقلالية، وتصبح هذه القدرة جزءًا لا يتجزأ من شخصيتنا، نعيش بها حياة أكثر اتساقًا مع قيمنا وأهدافنا، بعيدًا عن الضغوط والإملاءات التي لا تنسجم مع ما نؤمن به.