التطبيع.. أخطرُ ما يتهدّدُ المجتمع

 

د. صالح الفهدي

أعظمُ خطرٍ يواجههُ المجتمعُ هو التطبيع، وأقصدُ بالتطبيع هو التعوُّد على أمورٍ مخالفةٍ لقيمِ المجتمع وآدابه، والنظر إليها على أنها من الأمور العادية؛ بل إنّ بعضها قد يصبحُ من الأمور المُستلطَفة التي يتفكّهُ ويتندّرُ بها الناس!

ويمكننا ملاحظة ذلك عندما يعلِّقُ البعض على تصرفات غير منضبطةٍ لبعض الناس على أنها لا تليق بمجتمعنا المحافظ على قيمه، وآدابه، فلا تكاد تصدِّقُ الردود التي تتسابق معارضةً ذلك التعليق بحجّة مقولة باطلة في معرض النهي عن المنكر "دعوا الخلق للخالق"!، ومعنى اعتراضهم بأن عليكم أن لا تتدخلوا في شؤون الآخرين، وهم في هذا لا يتدبرون ما حدث في الأُمم الأخرى من هلاك لأنهم كما يقول الحق سبحانه وتعالى: "كانُوا لا يتناهوْن عن مُّنكرٍ فعلُوهُ لبِئْس ما كانُوا يفْعلُون" (البقرة: 79). كما إنهم يرون التعليق على انتهاك حرمات المجتمع تشهيرًا بأصحاب التصرفات، مُتغافلين أن من قام بالتصرفات المُنحرفة، وأظهر الميوعة، والغنج بما لا يليق بالرجال، قد أظهروه في العلن، مجاهرين بما يُعدُّ منكرًا، فيصبح على المجتمع أن يذود عن أخلاقهِ بانتقادِ ما يراهُ خارجًا عن الفطرة السليمة، ومخالفًا للدين والآداب العام، والذوق الذي نشأ عليه المجتمع.

التطبيعُ آفة المجتمع؛ لأنه بذلك يتعوّدُ على الفواحش فلا يواجهها؛ بل يراها وكأنها خارجة عن مسؤولياته، فتصبح روتينية، عادية، وبالتالي يصبح المنكر مألوفًا، والفحشُ مُعتادًا، ويندرجُ كل ذلك في إطار "الحريات الفردية"؛ حيث لا يجب على أحد أن يقول كلمة حق حتى ينتشر الفساد في المجتمع، وتستشري الفاحشة فيه، فلا يستطيع حينها أن يُعيد النظر إلى ما أفسده هو نفسه.

يقول السيد محسن المدرسي مؤلِّف كتاب "التطبيع مع المنكر": "أما ترى في حياتنا وفي مجتمعاتنا كيف تتغير الموازيين والمعايير، فيصبح المعروف- بحكم الشرع والعقل- مُنكرًا، والمنكرُ معروفًا؟ أما نشاهدُ يوميًا كيف احولّت مجتمعاتٌ غربيةٌ وأخرى شرقية، فجمعت قيمًا أخلاقية عُليا كالعفّةِ والحياء والوفاء والصدق والأمانة ثم وسمتها بوسام التّخلف، وصار حاملها مذمومًا يُسخرُ منه آناء الليل وأطراف النهار؟".

ولا يسلم في كثير من الأحيان من ينتقدُ سلوكيات معيّنةٍ يجدها مجانفةً للفطرة، مخالفةً للأدب؛ إذ تأتيه الردود الهجومية عنيفةً، وقاسيةً، وكأنّما قد نصّب أصحابها دروعًا لكلِّ من ينبري الانتصار لقيم المجتمع، فيهاجمونه، ويتّهمونه بازدراء الآخرين، وتشويه سمعتهم، في حين أن سمعة- أولئك الآخرون- عفنة، تُزكِّم الأنوف، وسيرتهم المنحرفة ظاهرة للناس لا تحتاج إلى دليل.

إنَّ الإشكاليات التي تحدثُ من جرّاء مهاجمة كل من ينتقدُ السلوك الشائن، أو الفعل القبيح، أو الشخص الرديء، تتمثل في أن آخرين لن يجرؤوا على ما قام به من انتقاد خشية مهاجمتهم من قِبل الذين يرون أنهم يتعدُّون على حريات الآخرين، أو يمسُّون سمعتهم.

هكذا تتغيّر المعايير في المجتمع، وذلك بتجميل الشخوص المنحرفةِ عيانًا، بإغداق المديح عليها، وهو ما يعني تسويقها على أنها نماذج مقبولة في المجتمع، بل قد ترقى إلى القدوات الاجتماعية! أذكرُ هنا على سبيل التعجُّب أن حاملًا لشهادةٍ أكاديمية عُليا يُسبغُ الثناء المبالغ على شخصٍ لا تدلُّ سلوكياته المتغنجة، المتكسرة على خصال الرجال وطباعهم. وذلك الثناءُ، والاحتفاء والقبول لَيُشجِّعُ على بروزِ نماذج أُخرى تتوسّعُ في مساحة الظهور الاجتماعي وهكذا ينتقل المجتمعُ من الدائرة الحمراءِ التي كان حازم المعايير فيها، إلى الدائرة الرمادية التي تتأرجحُ فيها آراؤه، ثم ينتقلُ -بسبب ما يروّج لهؤلاء الشخوص- إلى الدائرة الخضراء فيصبح أمر وجودها عاديًا جدًا؛ بل من علامات التعدد والتنوع في المجتمع!

في إحدى الدول، يُعجبني تصرُّف عدد من روّاد التواصل الاجتماعي، إذا ما رأوا متجاوزًا على قيم وآداب المجتمع، فإِنهم لا يترددون في إسكاته، وإخراس صوته، حتى لا يشجِّع غيره على ما أتى به من خزايةٍ ودناءة، ولا تقوى عصابته التي تجسُّ نبض المجتمع، فإذا رأوا المجتمع هامدًا، خامدًا، خجولًا من الانتقاد، خائفًا من ردِّة الفعل، ازدادت دسائسهم خبثًا، وتوسّعت أعمالهم التي تستهدف خلخلة مرتكزات المجتمع الدينية والأخلاقية والاجتماعية.

في السابق، كانت حالات الطلاق قليلة، ورغم ذلك لم تكن طبيعية في المجتمع؛ بل يستنكرها، ويستثقلها، أمّا اليوم فرغم كثرة حالات الطلاق فإنها أصبحت أمرًا عاديًا، مألوفًا في المجتمع، والطلاق هو في الحقيقة هدمٌ لأركان المجتمع، وتضييعٌ لفرص ثمينة لنموِّه والإنساني وهو ما يعني وجودهِ ومصيره.

التعاطي مع العنفِ أصبح أمرًا مألوفًا في مجتمعاتنا بسبب مشاهدة الأفلام؛ بل تخصصت مدينة السينما الأمريكية "هوليوود" في إنتاج أفلام "الأكشن" التي تتصدّر الاختيارات في العالم، وهي أفلامٌ فارغةٌ إنسانيًا، قائمةٌ على مشاهد العنفِ والقتل؛ بل إن المشاهد أصبح يستأنس بالفيلم الذي يبدأ بارتكاب جريمة مباشرة لأن ذلك يثير فيه مادة الدوبامين التي تشعره بالسعادة!!

أخطرُ ما يواجهه المجتمع هو تطبيع بعض الأخلاقيات غير السويّة أو السلوكيات الدخيلة عليه، ثم يصبحُ الأمر عاديًا على مرِّ الأوقات، وهذا ما حدث في المجتمعات الأوروبية تحديدًا؛ إذ أصبح انحراف الفطرة الإنسانية، والشذوذ، والعلاقات المحرّمة أمرًا طبيعيًا في المجتمع؛ بل أصبح كل من لا يمارسِ هذه الفواحش في نظرِ أفراده شخصًا غير طبيعي!!

وإذا كان من الأفضل أن لا يتوسّع الحديث عن بعض الحالات الشاذة تمثُّلًا بما قاله سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إِنّ لِلّهِ عِبادًا يُمِيتُون الْباطِل بِهجْرِهِ، ويُحْيُون الْحقّ بِذِكْرِهِ"، فإِنّه حينما يُذكر في العلن لا يجب مواجهته بالسكوت، وإنما بانتقاده، ووأدهِ حتى لا يتلقّفه مروِّجو الفساد في المجتمعات.

أرى أن على المجتمع بأفراده ومؤسساته التأكيد بصورة مستمرة على ثوابت أصيلة في ثقافته، لكي يُجلي أيّ شكٍّ يشوِّهُ أخلاقياته، ومبادئه، فيؤكِّدُ على المباديء الأصيلة، والأُسس الواضحة، كما أنّ عليه أن يساند قدواته السويّة، ويجعلها نماذجه المرتضاة، المقبولة، بجانب أن على الأُسر التحدُّث مع أبنائهم عن الأثر الذي يُحدثه تطبيع المنكر على المجتمع.

إنَّ التطبيع يخلقُ الألفة للمساوئ؛ فتنتقلُ من المحرمات إلى المُباحات، وهكذا يصابُ المجتمع في مقتل، ما ينذرُ بتفككهِ، وضعفه، وهو الأمر الذي نحذِّرُ منه اليوم حتى لا تكون عواقبه وخيمةً علينا.. لا قدِّر الله.