تحقيق: ناصر أبوعون
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [(فلمّا أَصْبَحْنَا ظَهَرَ لَنَا (جَبَلُ رَأْسِ الْحَدِّ)، وَلَمَّا اِنْقَضَتْ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ مِنْ النَّهَارِ ظَهَرَتْ لَنَا بِلَادُ (الْأَشْخَرَةِ)، وَهِي قَرْيَةٌ صَغِيْرَةٌ عَلَى سِيْفِ الْبَحْرِ يَسْكُنُهَا (الجَعَاِفرَةُ)؛ قَبِيْلَةٌ مَعْرُوْفَةٌ يَرْجِعُوَن بِمَهَمَّاتِ أُمُوْرُهِمٍ إلَى مَشَايْخِ (بَنِي بُوْعَلِي)، وَلَمَّا أَصْبَحْنَا الْيَوْمَ الثَّاني؛ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ ظَهَرَتْ لَنَا (جِبَالُ مِدْرِكَةٌ) السَّاعَة السَّادِسَة نَهَارًا، وَلَمَّا أَصْبَحْنَا الْيَومَ الثَّالِث، وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ ظَهَرَ لَنَا (جَبَلُ نُوس)؛ وَهُوَ جَبَلٌ شَامِخٌ عَالٍ جِدًا، وِكَأَنَّمَا (السمؤلُ ابنُ عَادٍ) عَنَاهُ بِقَوْلِهِ:"لَنَا جَبَلٌ يَحْتَلُّهُ مَن نُجِيرُهُـ // مُنِيْفٌ، يَرُدُّ الطَّرْفَ وَهُوَ كَلِيْلُ"
وفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا حَاذَيْنَا (سَدْح)؛ وَهِيَ ثَغْرٌ حَصِيْنٌ عَلَى الْبَحْرِ تَكْتَنِفُهَا الجِبَالُ؛ (تَلْتَاذُ) بِهَا (السُّفُنُ الشِّرَاعِيَّةُ) أَيَامَ الطُّوفَانِ مِنْ عَوَاصِفِ الْأَرْيَاحِ، وَتُعَدُّ أَوَّلَ مَمَالِكِ السُّلْطَانِ تَيْمُور بِظَفَار لِلْقَادِمِ مِنْ جِهَةِ عُمَانَ. وَيَسْكُنُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ (آلُ عُمَر)؛ وَهُمْ قَبِيْلَةٌ مَشْهُوْرَةٌ مِنْ قَبَائِلِ ظَفَار وَبِهَا تُجَّارٌ أَشْهُرُهُم (عَليٌّ بِنْ سَعِيْدٍ الشِّكَيْلِيّ العُمَانِيّ)؛ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الثَّرْوَةِ وَالْيَسَارِ. وفِي السَّاعَةِ الْحَادِيَةِ عَشْرَةَ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا وَصَلْنَا بَلْدَةَ (مِرْبَاط)؛ وَهِيَ ثَغْرٌ عَلَى الْبَحْرِ تَمُرُّ بِهَا السُّفُنُ الشِّرَاعِيَّةُ وَيَسْكُنُ هِذِهِ القَرْيَةَ (آلُ عُمَر) وَيَتَخَلَّلُهُمْ أَفْرَادٌ يَنْتَمُونَ إِلَى (عَليٍّ بنِ الحُسَيْنِ)– رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -.
****
[(بن ماجد في رأس الحدّ)]
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى الطَّائِيُّ: [(فلمّا أَصْبَحْنَا ظَهَرَ لَنَا (جَبَلُ رَأْسِ الْحَدِّ)]، وفي العبارة وشيجة بلاغية، وانزياح لُغوي وانحراف عن اللغة الاعتيادية أراد بها المعنى البعيد، وتوسَّل بالحيلة البلاغية؛ فابتكر صورة استعارية حملت معنى التشخيص والتجسيد في آن واحد، قاصدًا بها لفت الانتباه إلى جمال الطبيعة في (رأس الحدّ)، التي عند رؤيتها تستشفها الروح، وتوثقها كاميرا العين، وصوّرَ من خلالها الجبل على امتداد الشوف، وهو يُطِلُّ برأسه بازغًا كطلعة الشمس، ومُنبلجًا كفلقة البدر.
و(رأس الحدَّ) تقع في أقصى شرق عُمان، وكان الرحّالة والمستكشف العُمانيّ أحمد بن ماجد قد اتخذها مستقرًّا له، "مركزًا لممارساته العلميّة، بجانب أنها كانت ميدانَ تطبيقاته العملية إضافةً إلى تجاربه على المحيط الهنديّ والخليج العربي والبحر الأحمر"(1).
ويقول مايلز: "التلال خلف (رأس الحد) يمكن رؤيتها من مسافة كبيرة، ولكن الشيخ يقيم في حصن صغير، له ثلاثة أبراج، والقرية الصغيرة تُسمى ببلاد رأس الحد، وربَّما كان هناك ستمائة نسمة، يحكمهم الشيخ وهم ينقسمون ثلاثة أقسام: (الموالخ) و(بني غزال) و(بني مهيرة)، وبنو مهيرة هؤلاء يستمدون أصولهم من الجد (مهرة) والساحل منحدر، ولكن الصخور عالية حتى (رأس خبة)، وقد شاهدتُ عددا قليلا من البدو على تلال بني حربي، وكانوا قِطَاعًا صغيرًا من حوالي ثلاثين رجلا، وبين خبة و(الرويس) ساحل يُطلق عليه (سويح بني بوعلي)(2) ، وتبعدُ (رأس الحد) عن (قريّات) مسافة 50 كيلومترا، وتعد بلدة صحراوية ويقع بالقرب منها قلعة تاريخية، وتكثر في سواحلها السلاحف التي تتخذ من شواطئها مكانا لحفظ البيض، وهي تخرج من مضاجعها في الشواطيء باتجاه البحر، و- قديما - كان سكان رأس الحد يصطادون السلاحف الخضراء ذوات المنقار الصقري، وذات الرأس الضخم ويعتبر لحمها وبيضها من حيث المذاق لذيذا، وكانوا وما يزالون يصيدون (أسماك الكنعد) على سفن (السنبوق)، ثم تمليحه وإعادة تصديره إلى شرق أفريقيا وبومباي ما بين شهري يوليو وديسمبر وعندما ينتهي موسم تكاثر (الكنعد) يستعملون زوارق صغيرة لصيد الأسماك الأخرى، وبعضهم يشتغل بالزراعة في منطقة (جعلان)(3).
[الأشخرة من عائلة الدَّفْلَى]
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى الطَّائِيُّ: [(ظَهَرَتْ لَنَا بِلَادُ (الْأَشْخَرَةِ)، وَهِي قَرْيَةٌ صَغِيْرَةٌ عَلَى سِيْفِ الْبَحْرِ)]، و(الأشخرة) تقع إلى الجنوب من (رأس الحد)، وسُميت (الأشخرة) نسبةً إلى (شجر الأَشْخَر)، وهو نبات "دائم الخضر، ولحاؤه إسفنجي، يعالج آلام الركبة والأعصاب" وبرّيٌّ ذو أوراق عريضة وسميكة من عائلة الدّفليات. و(الأشخرة) "مدينة واسعة، وهناك برجان قديمان على الشاطيء، وصَفٌ من الصخور إلى جنوب المدينة، وهو يعتبر مرفأ المدينة"(4)، و[سِيْف البحر]: (سَاحِلُهُ)، وشاهدُه الشعريّ نجده في قول الأَخْنَسِ التَّغْلِبِيّ: "لُكَيْزٌ لَهَا الْبَحْرَانِ وَالسِّيْفُ كُلُّهُ // وَإِنْ يَأْتِهَا بَأْسٌ مِنَ الْهِنْدِ كَارِبُ(5)"
[(جعافرة عُمان حنابلة نِزاريون)]
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى الطَّائِيُّ: [(يَسْكُنُهَا (الجَعَاِفرَةُ)؛ قَبِيْلَةٌ مَعْرُوْفَةٌ)] والجعافرة ليسوا شيعة وإنما هم سُنّة، و"بطْنٌ من قبيلة بني بوعلي إلى جانب (السندة)، و(الرواتلة)، و(بنو رزيق)، و(الفهود)، و(الغنابيص)، ولا يمارسون تجارتهم باستخدام المراكب الشراعيّة، ولكن لديهم عددٌ كبيرٌ من قوارب الصيد. والأشخرة وحدها تمتلك 40 من تلك القوارب"(6)، وهم عُمانيون يتبعون المذهب الحنبليّ، "ومن (النِّزار) بعُمان (الجعافرة)، وهم من جعفر بن كلاب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقد تعدّد الجعافرة ولكنهم لم يستقلُّوا بزعامة خاصة ولا ببلد خاص، وأكثرهم في (الجنبة) و(بني بو علي) وغيرهم، ويوجد منهم أفراد في قبائل عُمان. والجعافرة رهطٌ من صميم عامر بن صعصعة"(7).
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى الطَّائِيُّ: [(الجعافرة يَرْجِعُوَن بِمَهَمَّاتِ أُمُوْرُهِمٍ إلَى مَشَايْخِ (بَنِي بُوْعَلِي)]، وهنا إشارة من الشيخ الطائيّ إلى وحدة اللحمة القبليّة، ومتانة النسيج الاجتماعيّ العمانيّ في (الأشخرة) وبلاد (جعلان)، وتطبيق عمليٌ من قاطنيها للحديث النبويّ:{إنَّ اللَّهَ لا يجمعُ أمَّتي- أو قالَ: أمَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - علَى ضلالةٍ ويدُ اللَّهِ معَ الجماعةِ ، ومَن شذَّ شذَّ إلى النَّارِ}(8)
[بني بوعلي أنصار السلاطين]
يقطن "(بني بوعلي) في (وادي بني بوعلي)، و(جندين) و(قرى الهشم)، وهي (البراري)، و(الحماية)، و(سِيْف)، و(شعب)، و(المكد)، وقرى أخرى ونحو ست أو سبع منها فيها حصون واستحكامات. أما الإنتاج الزراعي فوفير ومتنوّع وأبرزه الحِنْطة والشعير والشوفان والخس إلى جانب البلح وأنواع الفواكه"(9)، وموطنهم بلاد (جعلان) الواقعة "في سهل ممتد من (جبل قهوان) حتى (الرويس الجنوبيّ)، وحدود (بِدَية) في الداخل. و(أرض جعلان) طيبة التربة، حسنة الغرس، كثيرة المياه، خصبة التربة، نزحت المياه من قلب عُمان إليها"(10)، وتسرد لنا العديد من المراجع التاريخية دور قبائل (بني بوعلي) في مقاومة الاحتلال الأجنبيّ البرتغاليّ، ومن بعده البريطانيّ، وكثيرًا ما تعرّضوا "لمصالح بريطانيا في مياه بحر العرب، وما تلاه من حَربَين، وكان النَّصرُ في الأولى منهما حليفَ (بني بوعلي). ومن أبرز الأحداث كذلك مسيرُ بني بوعلي إلى (مسقطَ) ثلاثَ مراتٍ؛ الأولى لمؤازرة (السَّيد تركي بن سعيد عام 1871م)، والثانية لنُصرة (السُّلطان فيصل بن تركي) عام 1895م، والثالثة وفاءً (للسُّلطان تيمور بن فيصل) عام 1913م"(11).
[جبال مدركة عروس الوسطى]
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى الطَّائِيُّ: [(يَوْمُ الْجُمْعَةِ ظَهَرَتْ لَنَا (جِبَالُ مِدْرِكَةٌ)]، وتلك الجبال تُطِل برؤوسها العالية من محافظة الوسطى، وتشمخ بقممها المُدبّبة على شطآن بحر العرب جنوب شرق ولاية الدقم، وتتداخل فيها ألسنة الجبال مع مياه البحر، إنها صِنْعَة الله الذي أتقن كل شيء على عينه وعظيم قدرته فيما خلق وسوَّى، وهذه الصِنْعَة سرّ هذا الجمال الطبيعي الأخّاذ؛ حيث تتناغم التشكيلات الجبلية والصخور الكلسيّة في إطلالتها على البحر، مع الرمال الذهبية الناعمة، التي تعكس أشعة الشمس في منظر طبيعيّ خلاب.
[نوس بين حاسك وحدبين]
وعلى امتداد سبعة كيلومترات يربض (جبل نوس) على طول الشريط الساحليّ الواصل بين نيابة (حاسك)، ومنطقة (حدبين) بولاية (سَدْح)، وتكويناته الجيولوجية تحتوي على عيون مائية تتدفق من باطن الصخور الكلسيّة الضخمة، ويؤم مجموعة من الكهوف الطبيعية، ويبعد عن مدينة صلالة مائة وخمسين كيلومترًا.
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى الطَّائِيُّ: [(جَبَلُ نُوس)؛ وَهُوَ جَبَلٌ شَامِخٌ عَالٍ جِدًا، وِكَأَنَّمَا (السمؤلُ ابنُ عَادٍ) عَنَاهُ بِقَوْلِهِ:"لَنَا جَبَلٌ يَحْتَلُّهُ مَن نُجِيرُهُـ // مُنِيْفٌ، يَرُدُّ الطَّرْفَ وَهُوَ كَلِيْلُ"
[(وفاء السموءلُ ابنُ عَادٍ)]
"كان السموءل يهوديًا مشهورًا بالوفاء، وهو صاحب الحصن المعروف بالأبلق، وكانت العرب تنزل فيه فيضيفها، وبالسموءل يُضرَبُ المثل في الوفاء. فيُقال: (أوفى من السموءل)؛ لأنه فضَّل قتل ابنه على التفريط في أمانة أودعها عنده امرؤ القيس لَمَّا سار إلى الشام يريد لقاء قيصر، وكانت الأمانة أدرعا وفي ذلك يقول السموءل: "وَفَيتُ بِأَدرُعِ الكِندِيِّ إِنّي // إِذَا مَا خَانَ أَقوامٌ وَفَيْتُ) (وَأَوصَى عَادِيًا قِدمًا بِأَنْ لَا // تُهَدِّمَ يَا سَمَوأَلُ مَا بَنَيتُ) ( بَنى لي عَادِيا حِصْنًا حَصينًا // وَعَينًا كُلَّما شِئتُ اِستَقَيتُ)"، وأمَّا بيت السموءل الذي أوردها شيخنا الطائي الذي يقول فيه:" لَنَا جَبَلٌ يَحْتَلُّهُ مَن نُجِيرُهُـ // مُنِيْفٌ، يَرُدُّ الطَّرْفَ وَهُوَ كَلِيْلُ"؛ فهذا البيت على تفاعيل (البحر الطويل)، وهو بحر "ثُنائيُّ التّفعيلةِ يرتكزُ في بنائه على تفعيلتي:(فَعُوْلُنْ) و(مَفَاْعِيْلُنْ)، وهما التّفعيلتان الرّئيستان لِبَحرَي (المُتقارب) و(الهجز)"، و"الطّويلِ نوعٌ واحدٌ فقط، هو التّام، وصيغته: (فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ ** فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ)"، ونسج السموءل قصيدته التي يبلغ عدد أبياتها 21 بيتَا على هذا الوزن بانيًا قافيتها على اللام المرفوعة، ويمدح بها السموءل قومه، وقد أوردها (أبو تمام) في (الحماسة)؛ لكن نسي الناس ذكر القصيدة جملة وتفصيلا، وشاع منها على ألسنتهم (الخواص والعوام على السواء) بيت واحد فقط في مطلعها ومفتتحها، وصار مضربا للأمثال يقول فيه: "إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ // فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ"(12)
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى الطَّائِيُّ: [(حَاذَيْنَا (سَدْح)؛ وَهِيَ ثَغْرٌ حَصِيْنٌ عَلَى الْبَحْرِ تَكْتَنِفُهَا الجِبَالُ؛ (تَلْتَاذُ) بِهَا (السُّفُنُ الشِّرَاعِيَّةُ) أَيَامَ الطُّوفَانِ مِنْ عَوَاصِفِ الْأَرْيَاحِ، وَتُعَدُّ أَوَّلَ مَمَالِكِ السُّلْطَانِ تَيْمُور بِظَفَار لِلْقَادِمِ مِنْ جِهَةِ عُمَانَ)].
[(سدح محطة اللبان وأُذُن البحر)]
[(سَدْح)] في هذه الولاية تتناثر المغارات والكهوف الطبيعية في بطون الجبال، وتتدفق المياه من شقوق الصخور الكلسية، وتنبع منها العيون المائية التي من أهمها: (عين شيروخ )، و(عين غيظ)، بـ(حدبين) فضلا عن (صخرة صيدقان) الجيولوجية على مقربة من (عين لجأ لشأ)، والعمر الجيولوجي لهذه الصخرة يُعد بآلاف السنين، وكان على القرب منها (محطة تجميع اللبان الظفاريّ) إبان عصر الدولة المنجويّة حيث يأتي إليهما محملا على ظهور الإبل، ثم يُنقل إلى (مِرباط) تمهيدًا لتصديره حول العالم. وإلى جانب تصدير اللبان، اشتُهر الغواصون من أهل (سَدْح) باصطياد الحلزون الشهير بـ(أُّذُن البحر)، والمتعارف عليه في اللهجة المحلية باسم (الصُّفَيْلَح)، وعلى مسافة سبعة كيلو مترات من (سَدْح) ندخل إلى مدينة (المحلة) الأثرية القديمة التابعة لنيابة (حاسك). وعلى منحدرات (جبل نوس) يقبع ضريح (النبي صالح بن هود عليه السلام) شرق (حدبين). وبالقرب من صلالة بمسافة 135 كيلو مترا يرتفع حصن (سَدْح) شامخا مُشرفًا بامتداد الشوف على المساحات الشاسعة المترامية الأطراف من جهة الشرق ما بين من (سدح)، و(حاسك)، حيث كان يمارس دورا رقابيا وإداريا في العلاقات التِّجاريّة ويعمل كحلقة اتصال بين المناطق المُنتجة للبان الظَفاريّ من خلف (جبل سَمْحَان) وصولا إلى صلالة.
[(الاشتقاق اللغوي والتصوير الفني)]
[(تَلْتَاذُ بها السفن أيام الطوفان)] هنا جمع الطائي بين لطيفتين؛ الأولى لاحظنا نحته واشتقاقه الفعل المضارع (تلتاذ)، وتحوّل به من الثلاثي (لاذ، تلوذ) إلى الخماسي (التاذ) (تلتاذ)، على وزن (افتعل)؛ موظّفًا قاعدة: الزيادة في المعنى زيادة في المبنى). أما اللطيفة الثانية الانزياح بالعبارة من اللغة المعتادة إلى بنية بلاغية تصويرية فصوّر من خلالها السفن بشخوص مرتعدة من الطوفان تلجأ إلى (سدح) لتوفر لها الحماية.
[(السُّفُنُ الشِّرَاعِيَّةُ العُمانية)]
في مواضع كثيرة من الوثائق الغربيّة حول الخليج وعُمان إشارات عديدة للمخاطر المحتملة والكبيرة التي يمكن أن "تتعرض لها المصالح البريطانية جراء تنامي القوة العددية والعسكرية والتجارية للأساطيل العمانية؛ لذا كانت دائمة المراقبة لها، والسعي إلى الحد من تمددها وسطوتها"(13)، وفي دراسة بعنوان: (السفن العمانية في المصادر التاريخية للباحث العراقي عماد جاسم حسن، وصف لنا أنواع ومواصفات سفن الأسطول التجاري والعسكري العمانيّ نقلا عن س. ب. مايلز، قائلا: "إن الأخشاب التي تُصنع منها السفن العمانية على اختلاف أنواعها تُستورد من الملبار، أما تكلفة بناء مركب من طراز (البدن) فيبلغ أربعة ريالات للمتر المكعب الواحد، وفي إمكان ثلاثة نجّارين بناء سفينة خلال ثلاثة أشهر، أما الأسلاك المستعملة فهي المصنوعة من الحبال يتم صنعها في مطرح وأحس قماش للأشرعة يُجلب من البحرين وهناك نوعان من السفن أولهما تُسمى (البدن) وهي من أهم المراكب الساحلية وأكثرها عددا واستعمالا ويبلغ طولها 20-25 قدما و[حمولتها (10-20 طنا)"من أقدم السفن العُمانية ويعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وهي سفينة بدون سطح أي إن قاعها مكشوف، وكان العُمانيون يبحرون بواسطة البدن إلى أفريقيا والهند ودول الخليج وعدن، والأبدان الكبيرة تُسمى (السواحليات) وإلى هذا اليوم توجد سفينة واحدة من هذا النوع موجودة في جزيرة مصيرة](14). "وتستخدم للتجارة الداخلية لكونها صغيرة الحجم، أما طراز (البغلة)" وهي[من أقدم السفن العُمانية وأكبرها حجمًا، وكانت تصنع في مدينة صور في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، والسفينة لها ثلاث صواري ولها خمسة أشرعة، وتصل حولتها إلى (500) طن، وهي معدة للسفر للمسافات الطويلة، وكانت آخر سفينة من هذا النوع صنعت في صور عام 1956م](15)، فهي الأكبر وتُستخدم للتجارة مع بومباي وخليج البنغال وأفريقيا الشرقية والبحر الأحمر. وهناك سفينة (البتيل) وتتراوح حمولته ما بين 100 – 200 طن، و(الزيما)، ويوجد نوع آخر يسمى (الشوعي)، وهو [يشبه السنبوك في الكثير من صفاته، غير أنه أصغر من السنبوك حجما وله فنه في الثلث الخلفي من السطح، كما أن مقدمة الشوعي الخزمية (الصاطورة) أجمل من مقدمة السنبوك فهي تشبه حد السيف وترتفع فوق مقدمة السفينة مضيفه جمالا ملحوظا يميز الشوعي عن غيره من السفن، ويستخدم بكثرة في رحلات الغوص على اللؤلؤ، كما أن صيادي الأسماك استخدموا الشوعي في صيد الأسماك، ومازال حتى يومنا هذا يستخدم في صيد الأسماك](16) "وهو قريب إلى الطراز الأوربيّ، أمّا في ساحل الباطنة فيوجد نوع من القوارب اسمه (الشاشة)، و[كان يعرف باسم “محمل الفقير” و“القارب المعجزة” كونه كان لا يغرق حيث لا يؤثر فيه تسرب مياه البحر ودخوله من بين “الجريد”، حيث كان يتم صناعته من جريد النخل، حتى أصبح ملازمًا للصيادين](17) ، "وهو يقاوم الأمواج مصنوع من سعف النخيل، ويتحمل أشد الأمواج عُنفًا ويستعمل في الصيد والاتصال بالسفن الراسية بعيدا عن الشاطيء"(18)
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَيَسْكُنُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ (آلُ عُمَر)؛ وَهُمْ قَبِيْلَةٌ مَشْهُوْرَةٌ مِنْ قَبَائِلِ ظَفَار وَبِهَا تُجَّارٌ أَشْهُرُهُم (عَليٌّ بِنْ سَعِيْدٍ الشِّكَيْلِيّ العُمَانِيّ)؛ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الثَّرْوَةِ وَالْيَسَارِ)].
[(آل عمر أبناء الحكلي)]
يُقال لهم (أبناء الحكلي) نسبة إلى "(حكلي بن الأبيود بن مالك الصدف بن مرتع بن معاوية بن كندة وهي من قبائل كهلان بن سبا من قحطان)، يعود أصل نسبهم إلى قبيلة (كندة العربية)، وتفرعوا منها إلى ثلاثة أفخاذ؛ وهم: (آل عمر) ومنهم العمري وبني عون العوائد، و(آل الباقي)، ومنهم باقي ودعكون وآل سلم: ومنهم المعشني وكشوب وتبوك وجعبوب وبني سعيد وقطن وجشعول وشماس وحاردان وعلي بن عيسى وعكعاك وبني جومع"(19)
[(الشكيليّ شهبندر التجار)]
كان التجار الهنود الكبار الذين يستورد منها البضائع يخاطبونه في مراسلاتهم بـ"جناب الشيخ المكرّم المحترم"، وكان شهبندر التُّجار بولاية سدح في "العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، وعمل بداية الأمر في عسكر الدولة إبان عهد السلطان فيصل بن تركي، وتدرج في المناصب الحكومية إلى أن وصل إلى منصب والي ولاية سدح، وبعدها اتجه إلى التجارة واستقرّ في ظفار، وعندما تطورت تجارته أرسل في طلب أبناء أخوته من شمال عُمان وجعلهم مشرفين معه، ثم كانت وفاته سنة 1948"(20)
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَصَلْنَا بَلْدَةَ (مِرْبَاط)؛ وَهِيَ ثَغْرٌ عَلَى الْبَحْرِ تَمُرُّ بِهَا السُّفُنُ الشِّرَاعِيَّةُ وَيَسْكُنُ هِذِهِ القَرْيَةَ (آلُ عُمَر) وَيَتَخَلَّلُهُمْ أَفْرَادٌ يَنْتَمُونَ إِلَى (عَليٍّ بنِ الحُسَيْنِ)– رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا)]
[(مِرْبَاط عاصمة ظفار القديمة)]
"وبين (شرمة) على ساحل أرض حضرموت إلى (مدينة مرباط) ستة أيام في البحر وبينهما (غب القمر) ومعنى (الغب): الجون، وفي قعر هذا الجون بلد يقال له (خلفات) وعلى رأس الجون المذكور جبل كبير مستدير على هيئة القمر أبيض اللون ولذلك سمي بـ(جبل القمر) لقويسه وبياضه وجبال مدينة مرباط تُنبت شجر اللبان ومنها يتجهز به إلى جميع المشارق والمغارب، وأهل (مرباط) هذه قوم أخلاط من اليمن وسائر قبائل العرب ومنها إلى قرية حاسك على البحر مسافة أربعة أيام في البر ومجريان في البحر ويقابل (حاسك) في البحر جزيرتان: (جزيرة خرتان) و(جزيرة مرتان) وقد تقدم ذكرهما وعلى (حاسك) جبل يسمى (نوس) وهو جبل كبير مطل على البحر وأرض (قوم عاد) تقابله في جهة الشمال ومن (حاسك) إلى قبر هود"(21)، و"من المنصورة إلى مرباط أربع فراسخ، بناء الفرس ويقال إنّما بني الاسم مرباط لأنها كانت مرابط الخيل التي للفرس من أهل سيراف، وآخر من تولى بها من نسل الفرس أولاد منجو، وخرب على يد أحمد بن محمّد بن عبد الله ابن مزروع الحبوضي"(22)، و"قد كانت (مرباط) عاصمة لإقليم ظَفار، وكانت تقع على الطرف الشرقي للسهل الذي تقع عليه الآن قرية (طاقة)، حيث لاتزال توجد آثار مدينة كبيرة كثيرة السكان. أما (مرباط) نفسها التي تمثل المرفأ الرئيس لرسو السفن، والتي تحدث عنها كل الجغرافيين العرب الأوائل تقريبا فإنها تقع على بعد نحو 20 ميلا شمال قرية (مرباط) الحالية والتي كانت على ما يبدو مرس خارجيا للسفن خلال مرحلة "المونسون" الشمالية الشرقية"(23) و"المدينة القديمة تتوافر فيها مصادر للمياه تنحدر من المرتفعات الجبلية، وكان فيها ثلاثة خلجان كانت كلها مرافيء ومراسٍ للسفن العربية، وقد أشار إليها كل من (هينز) و(كارتر) و(بنت). وكان أكبر تلك المرافيء يسمى (روري) ويمتد إلى مسافة ميلين تقريبا؛ إلا أن مدينة مرباط القديمة التي تميزت لقرون كثيرة بوصفها الميناء والسوق الرئيسة لتجارة اللبان، انتهت في منتصف أونهاية القرن الرابع الهجري على يد المنجويين بتدميرها، ونقلهم العاصمة إلى ضفة أحد الخلجان الواقعة على بعد 20 ميلا إلى الغرب"(24)
[علي بن الحسين القرشيّ الأفضل]
هو "ابن الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، السيد الإمام، زين العابدين، الهاشمي العلوي، المدني. يُكنى أبا الحسين ويقال: أبو الحسن، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله. وأمه أم ولد، اسمها سلامة (سلافة) بنت ملك الفرس يزدجرد، وقيل:غزالة. ولد في سنة ثمان وثلاثين. حَدَّثَ عنه أبو سلمة، وطاوس، وهما من طبقته. قال ابن سعد هو علي الأصغر، وأما أخوه علي الأكبر، فقُتل مع أبيه بكربلاء. وكان علي بن الحسين ثقة مأمونا، كثير الحديث، عاليا، رفيعا ورعا. روى ابن عيينة، عن الزهري، قال: ما رأيت قرشيا أفضل من علي بن الحسين"(25).
يتبع...
المراجع والمصادر
(1) الموسوعة العمانية، مج1، ص:111
(2) الخليج بلدانه وقبائله، س. ب. مايلز، 2016م، ص: 367
(3) الإبحار في الخليج العربي وعمان: مجتمعات السفن الشراعية، ديونيسوس ألبرتوس آجيوس، ترجمة: سلطان بن ناصر المجيول، دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، مركز أبوظبي للغة العربية، مشروع كلمة للترجمة , ٢٣/٠٦/٢٠٢٠
(4) الخليج بلدانه وقبائله، س. ب. مايلز، ترجمة محمد أمين عبد الله، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان 2016، ص: 367
(5) شعراء تغلب في الجاهلية أخبارهم وأشعارهم، علي أبوزيد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط1، 2000، 2/149
(6) تقرير: لوريمر القنصل البريطاني، موسوعة عمان: الوثائق السرية، ج1، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007، ص: 346
(7) إسعاف الاعيان في أنساب أهل عمان، سالم السيابي، مجلد1، ص: 17
(8) رواه عبد الله بن عمر، أخرجه الترمذي (2167) واللفظ له، والحاكم (397)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/37) باختلاف يسير، وقال الألبانيّ: صحيح دون: "ومن شذ"
(9) الخليج بلدانه وقبائله، س. ب. مايلز، مرجع سابق، ص: 46
(10) الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين، حميد بن رزيق، تحقيق: محمد بن حبيب صالح، ومحمود بن مبارك السليميّ، مج2، ص6، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان 2016، ص: 48
(11) بني بوعلي.. تاريخهم الاجتماعي والسياسي (1790- 1958م)، أحمد بن خميس السنيدي، مطبعة العنان، 2023، وانظر أيضًا الحملات البريطانية ضد قبيلة بني بوعلي، أمينة بنت عبدالله الخاطري.
(12) أشعار الشعراء الستة الجاهليين - المجلد 1 - الصفحة 125 - جامع الكتب الإسلامية، أبو الحجاج، يوسف بن سليمان بن عيسى الشنتمري الأندلسي المعروف بالأعلم (المتوفى: 476هـ)
(13)Bombay Governments, Op cit
(14) 7 أنواع من السفن اشتهرت بها ولاية صور، محمد العريمي، نقلا عن: مجلة جند عُمان، العقيد الركن متقاعد عبدالله بن محمد الغيلاني، وكتاب أسياد البحار – للمؤلف: حمود بن حمد بن جويد الغيلاني، نقلا عن صحيفة أثير العمانية. الجمعة , 18 أكتوبر 2019 8:18 م
(15) المرجع نفسه
(16) موسوعة قطر وتراثها البحري ، ص 165.،
(17) قارب الشَّاشة وطرق الصيد، خالد سليمان عبيد بن جميع، مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث2020
(18) السفن العمانية في المصادر التاريخية، أ.د. عماد جاسم حسن، دورية "كان" التاريخية، السنة 16، العدد 59، مارس 2023، ص: 81
(19) تاريخ حضرموت، صلاح البكري، ج2، مكتبة الصنعاني، 1956، ص:99، وانظر: جوهر، محمد باحنان ، ص 145، وراجع: دليل الخليج، ج.ج لوريمر ، ص 899، وطالع: المجتمع والسياسة في الجزيرة العربية ، فريد هاليداي، ص 252، والجزء الثاني من الإكليل للهمداني
(20) تاريخ ظفار التجاري (1800-1950)، حسين بن علي المشهور باعمر، ص 127 - 128
(21) نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، الشريف الإدريسي – تحقيق: أومبرتو ريتستانو، ج١، عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع, 1989ص: ٥٥
(22) تاريخ المستبصر، جمال الدين أبو الفتح المعروف بابن المجاور الشيباني الدمشقي (ت ٦٩٠هـ)، ص 99
(23) يشير معجم أكسفورد إلى أن أصل كلمة “monsoon” مأخوذ أصلا من الكلمة العربية “موسم”
(24) الخليج وبلدانه وقبائله، س. ب. مايلز ص: 350
(25) سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت ٧٤٨ هـ)، تحقيق مأمون الصاغرجي، الطبقة الثانية: علي بن الحسين، ج4، ط3، ص: 387، الناشر: مؤسسة الرسالة، ١٤٠٥ هـ - ١٩٨٥م