التطبيع العربي.. والدولة الفلسطينية المُستقلة

 

مسعود أحمد بيت سعيد

masoudahmed58@gmail.com

 

بعد اتفاقية "كامب ديفيد"، دخل العمل القومي العربي برُمته في غياهب المجهول؛ حيث استطاعت الإمبرياليات الغربية الاستعمارية حشو العقل العربي بالكثير من المفاهيم الخاطئة والخطيرة التي شكّلت إحدى المعضلات الرئيسية التي ما زلت تضعه في أزمة خانقة لم يستطيع التخلص منها إلى الآن، ولعل إحدى تجلياتها الأكثر استعصاءً تتمظهر في الموقف من الدولة الفلسطينية المستقلة وكيفية فهمها.. وهل هي تتويج لنضال وطني وقومي قدَّم في سبيلها أغلى التضحيات، أم يُراد من خلالها تكريس الوجود الصهيوني إلى الأبد؟

إنَّ دواعي هذا القول هو ما يُشاع بأن قيام دولة فلسطينية هو في الجوهر من متطلبات الأمن الإسرائيلي؛ حيث يتردد بين الحين والآخر أن قيامها هو بالأساس مصلحة إسرائيلية، ويدرجون- بلا خجل- عمليات التطبيع السابقة واللاحقة مع الكيان الاستعماري الإجلائي العنصري تحت ذات العنوان. ولاريب أن مثل هذه الأطروحات وثيقة الصلة بالأزمة البنيوية الشاملة التي تعيد إنتاج ذاتها وآلياتها بأشكال مختلفة. بيْد أن تناول هذا الموضوع يفتح على قضايا أخرى تتعلق بالسيادة والتحرر الوطني الديموقراطي والتي ليس هنا مجال بحثها. وما يهم تأكيده هو مدى ما تُلحِقُه هذه الفعالية الفكرية من أضرار تطال جوهر ومضمون المشروع الوطني والقومي على حد سواء، وبقدر ما يحمل هذا التوجه كمًّا هائلًا من الرؤى والأفكار والتصوُّرات التي تهبط بالحقوق التاريخية المشروعة الى أدنى المستويات، بقدر ما تُشكِّلُ في العمق مدخلًا للهزائم العربية عسكريًا وسياسيًا، والتي تحول دون التسلح بالرؤية العلمية لطبيعة المشروع الصهيوني وأبعاده التي تتخطى الجغرافيا الفلسطينية، والتي استيعابها يُعد الشرط الأول للممارسة الثورية الوطنية والقومية.

وبطبيعة الحال.. فقد أثارت هذه الموضوعات جدلًا واسعًا في صفوف الثورة الفلسطينية المعاصرة؛ حيث أحدثت تلك الاجتهادات في مراحلها المختلفة شرخًا عميقًا، وقد توافقت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في دورة المجلس الوطني الفلسطيني الرابعة عشر سنة 1979 إلى اعتماد المرحلية كبرنامج نضالي يستجيب لواقع المعادلات والمعطيات المختلة، دون أن يتضمن أية إشارة للاعتراف بالكيان الصهيوني.

لقد نزفت أحبار كثيرة حول ما يجب على الفلسطينيين فِعله وحول عقلنة الشعار والخطاب السياسي؛ بما يتلاءم مع موازين القوى القائمة، وذلك تحت ستار الواقعية التي يُروِّجُ لها النظام العربي الرسمي من أجل تبرير التنازلات. غير أن الوقائع المادية والسياسية أطاحت بكل تلك التقديرات، مما أدخل النضال العربي برمته شعبيًا ورسميًا في مأزق حقيقي. إما الاستسلام وإما الصمود ومواصلة الحرب الثورية حتى دحر الهجمة الإمبريالية والصهيونية. وفي هذا السياق يتواصل نضال الشعب الفلسطيني من أجل طرد الاحتلال الاستيطاني واستعادة أرضه، وتحقيق أهدافه في العودة، وإقامة دولته المستقلة التي تتطلب موقفًا حازمًا، وليس التطبيع الذي يحمِل في ذاته إساءة للدماء الفلسطينية والعربية التي سالت على مذبح الحرية والاستقلال. وما لم تُقتلع هذه الأفكار من العقول فإنَّ خللًا حقيقيًا سيبقى قائمًا.

وفي إطار المخاوف الراهنة من عملية التطبيع المرتقبة، من المُهم التوقُّف عند الحيثية الأبرز والمُتمثلة في الرغبة الأمريكية والإسرائيلية في عدم منح الشعب الفلسطيني ومقاومته مُنجزًا سياسيًا؛ خوفًا من أن يتسرَّب الوهن إلى العمق الاجتماعي الإسرائيلي، هذا من جانب. ومن الجانب الآخر، توفير مسوغٍ للدول التي على قائمة التطبيع، بحيث يُرفع عنها درجات الحرج القصوى، خصوصًا وأنها قد تتزامن مع وقف العدوان على قطاع غزة، بحيث يُنظر لها وكأنها تلبية لمطب قومي في ظل الفشل العربي في هذه المرحلة.

وحتى لا تُصاب الجماهير العربية بالإحباط واليأس وفقدان اليقين بحتمية النصر، لا بُد من التأكيد على نقطتين رئيسيتين؛ أفرزتهما التجربة الماضية بكل وضوح.. الأولى: أن الدول المُطبِّعة وتلك التي على الطريق، لن تُغيِّر من مجرى الصراع؛ إذ لم تكن يومًا- باستثناء مِصر- معنيةً بالشأن القومي، ولم تقدم شيئًا مُفيدًا للقضية الفلسطينية، سوى بعض الدعم المالي الذي ضرره ربما أكثر من نفعه! بحيث يُلمِّع صورتها من ناحية، ويصب في جيوب التيارات اليمينية التي شكَّلت في مسيرة الثورة قاعدةً للانحراف الوطني من ناحية أخرى.

الثانية: أن كل ما ستفعله هو إخراج تلك العلاقة من إطارها السري إلى العلن، وفي كل الأحوال فإنَّ إشهارها لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر في مسيرة النضال الوطني والقومي، وليس في هذا شرعنةً للتطبيع، التي هي مرفوضة جملةً وتفصيلًا، بصرف النظر عن كل الاعتبارات، وإنما القصد أن تحرير العقول من جوانب الزيف والخداع الذي مُورس على مدى عقود طويلة يُقدِّمُ خدمة جليلة للنضال الوطني الفلسطيني.

طوبى لفلسطين التي في الوقت الذي تتحرر فيه من الأوهام، ستتحرر من الاحتلال.