غزة.. وزلزال الوعي العالمي

 

 

هند الحمداني

حدِّثني عن غزة، دَعْ الحديثَ يطُول، حدِّثني عن شموخها وعن صُمود أهلها أجمعين، طَمئِني عن شَبَابها المجاهدين، كيف حَالهم؟ عساهم آمنين؟ غزَّة رفيقة الأوفياء الصادقين، وحبيبة الشهداء المقبلين، حدِّثني عن أرض غزة، أرض مُمتدة مُنبسطة (برًّا وماءً) لا جبالَ فيها، فكانت جبالُها: رجالُها والنِّساء وصغارها الأبرياء.

مُنذ السابع من أكتوبر المجيد، والعالم بدأ بتحديد مسارات جديدة.. نماذج قديمة انفضحتْ وحقائقُ صادمة تكشَّفت، وسقطتْ الأقنعة عن أفراد ومؤسسات ودول، وبدا العالم أكثر وضوحًا وجُرأة في إظهار حقيقة ما يُخفيه، وحقيقة انتماءاته: السياسية والفكرية والعقائدية. ولهؤلاء المساكين الذين ما زالوا يعتقدون أنَّه لم يتغيَّر شيء بعد السابع من أكتوبر؛ فيُسعدني أنْ أُخبركم بأنَّكم مُخطئون؛ لأنَّ زلزال الوعي الذي اجتاح العالم بعد 7 أكتوبر عطَّل كلَّ الأجندات الصهيونية، وكلَّ الأكاذيب الإعلامية الغربية المُمنهَجة منذ عقود، وحرَّك الفكرَ السليمَ والحسَّ الإنسانيَّ الفطريَّ في كل شعوب العالم الحر؛ لذلك استمرَّت هزات الوعي باجتياح أكبر الجامعات العالمية، وبالأخص الجامعات الأمريكية العريقة، وأجَّجت طلبة الجامعات الأحرار الذين يبحثون عن الحقيقة، ويسعون للعدالة، رافعين شعارات؛ مثل: "فلسطين حرة"، و "أوقفوا الاستثمارات مع الكيان الصهيوني واكشفوا عنها"، وانتفضتْ كلُّ شعوب العالم الحر في مظاهرات مليونية ما زالت مُستمرة في أكبر مدن العالم، وفي قلب البلدان المشاركة في هذا العدوان الصهيوني الظالم.

زلزال الوعي العالمي قدَّم للجميع فرصةَ الاختيار بين الحق والباطل، وبين النور والظلام، ولم تعد هناك ذريعة لأي إنسان في أن يقف موقف الحياد؛ فالحياد في هذه المعركة يعدُّ رذيلة وإعانة للظالم وتقوية لموقفه، وكلُّ العالم الآن في اختبار أخلاقي حقيقي، معياره الوحيد: ما هو موقفك الفعلي تجاه ما يحدث من إبادة جماعية لأهل غزة؟

وقد اجتمَع رؤساءُ وقادةُ وممثلو الدول العربية في مملكة البحرين لعقد القمة العربية في دورتها الثالثة والثلاثين، 22 دولة عربية و22 وفدًا عربيًّا، وسط احتفالية استقبال بالورد تُشعرك وأننا على أبواب الإعلان عن فتح قريب؛ فيسجِّل أحد القادة موقفه الأخلاقي للتاريخ بقوله: إن "هجوم حماس في 7 أكتوبر وفَّر لإسرائيل مُبرِّرًا للهجوم على غزة"! مُتناسيًا تمامًا العقود الطويلة من العدوان الإسرائيلي المستمر والمجازر والتصفية التي ارتُكِبَت بحق الفلسطينيين من مذبحة بلدة الشيخ عام 1947، وتتالت بعدها: مذبحة دير ياسين، ومذبحة الطنطورة، ومذبحة قلقيلية، ومذبحة كفر قاسم، ومذبحة خان يونس، ومذبحة تل الزعتر، ومذبحة صبرا وشاتيلا، ومذبحة المسجد الأقصى، ومذبحة مخيم جنين...وغيرها من المجازر الدموية والاعتقالات التي لا تتوقف، والانتهاكات البشعة في حق الأطفال وكبار السن والنساء، وكل أطياف المجتمع الفلسطيني في غزة والضفة والقدس، وفي كل شبر من أرض فلسطين المحتلة، ثم يُردف بقوله: إن ما فعلته حماس "كان قرارًا مُنفردًا وغير مسؤول"!!!

فما هي مُحصِّلة هذا الخذلان العربي، إلَّا أنْ طالبوا المجتمع الدولي بدعم جهود وقف النار، وأنَّه على المجتمع الدولي ومجلس الأمن فرض الوقف الفوري للعدوان على غزة، ورفض تهجير سكان غزة وتأكيد دعمهم لحقوق الشعب الفلسطيني ودعوتهم لمؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط.

إذا كانت 22 دولة عربية بسيادتها وقواتها وهيمنتها لم تخرج بنتيجة غير: "نطالب ونرفض وندين ونقلق، وندعو المجتمع الدولي لحل مشاكلنا، وأخذ حقنا المغتصب منذ أكثر من 76 سنة"، فلماذا يعتِب القادة العرب على حماس أنها اتخذت قرارًا منفردًا في كفِّ يد الظالم الصهيوني التي امتدت على الأرض والعرض؟ ولماذا يتغنَّى القادة العرب بطريق السلام والحمام لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، في الوقت الذي يتحدث فيه الكيان الصهيوني -وبكل شفافية- عن أنه لن يقبل بوجود دولة فلسطينية، وأن كامل فلسطين ستكون له، وأنه مستمر في حرق الأخضر واليابس حتى يحقق المشروع الصهيوني الكبير من النيل إلى الفرات؟

وفي الجانب الآخر، وبالتحديد في مدينة رفح الفلسطينية، يُسجِّل الدكتور خالد الشموسي موقفه الأخلاقي للتاريخ، وبعد أنْ أعلن العدوُّ الصهيونيُّ بدء عمليات الاجتياح البري لمدينة رفح الفلسطينية، ومع انسحاب الطواقم الطبية من المستشفيات، وقف الدكتور خالد رافضًا العودة إلى وطنه، واختار البقاء مع أبناء غزة يداوي مرضاهم ويخفف آلامهم بما يستطيع، مُغردًا على منصة "إكس": "حياتي ليست أغلى من حياة أي طفل في غزة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم"".

الدكتور خالد الشموسي، وهو أستاذ مساعد بكلية الطب في جامعة السلطان قابوس، واستشاري الجهاز الهضمي والمناظير المتقدمة، وصاحب مركز طبي خاص، إنسان ناجح على جميع الأصعدة، ومع ذلك اختار أن يبقى هناك في رفح وسط الدمار الشامل والقصف العشوائي والإبادة العرقية.. فلماذا يا تُرى؟ لأن الحق بيِّن كالشمس، ولأن الواجب الإنساني والأخلاقي لأصحاب المبادئ الرفيعة والضمائر الحية يستوجب عليه البقاء، وتسجيل موقف بطولي لا يعرف طريقه إلَّا الرجال الصادقون المؤمنون. لم يستطع الشموسي أن يُدير ظهره لأهالي غزة الجرحى والمتألمين عائدا للوطن، لأن الوجع خالط الأحشاء ومزق الأشلاء، ولأن الصمود أيضا دق أبواب السماء.

"نحن غزة بسمائها وهوائها وبحرها ورمالها".. بهذه الكلمات يَظْهَر أبوعبيدة المجاهد المغوار ليبعث برسائل الصمود والثبات والشكر لشعب غزة العظيم والضفة والقدس، ولكل شعوب العالم الأحرار، وممتنًا لشعب غزة العظيم الصابر المحتسب لأكثر من 224 يومًا من القصف المتواصل والاعتداء والنزوح والعدوان الذي خلف أكثر من 36 ألف شهيد، وشرَّد كل سكان غزة من منازلهم.

أكَّد أبو عبيدة لكل الأحرار في العالم بقوله: "إننا نواجه العدو بالأسلحة المضادة للدروع والأفراد وفتحات الأنفاق والاشتباكات من المسافة صفر وعمليات القنص الدقيقة والكمائن المركبة وإسقاط القذائف من المسيرات والصواريخ قصيرة الأمد على تجمعات جنود العدو واستهداف أعلى رتبة عسكرية معلنة منذ بدء الحرب البرية وحقول الألغام المستمرة وتوجيه رشقات صاروخية إلى مستوطنات العدو". هذا التسلسل القيادي للمقاومة والتكتيكات المدروسة والعمليات المترابطة والمتنوعة بالإمكانيات المتواضعة، والتي لا تزال تحتفظ بقوتها وشدتها منذ اليوم الأول للمعركة في السابع من أكتوبر وإلى اليوم، ليست إلا تأكيد صريح من قيادة المقاومة أننا صامدون وبنفس القوة والروح المعنوية والإيمانية التي ظفرنا بها منذ اليوم الأول لمعركة طوفان الأقصى.

أمَّا على الجانب الآخر للعدو الصهيوني، فهو يظهر للعالم أجمع بصورته النازية الهمجية، وبتحرُّكاته الفاشلة وتخبطه الأرعن، حارقا الأخضر واليابس، مستفحلًا في عدوانه البري على رفح وحي الزيتون وجباليا وجنوب مدينة غزة، فاتحًا على نفسه باب الجحيم الذي لا يسد، فالمقاومة تجابه هذا العدوان بكل بسالة وثبات وقوة والعدو مستمر في عد قتلاه وجرحاه وانتشال جنوده وخسارة آلياته العسكرية من دبابات وناقلات وجرافات.

بوادر النصر تلُوح في الأفق، وشهداؤنا أحياء عند ربهم يرزقون، وليس لدينا ما نخسره؛ فالمنازل والمباني والمساجد والمستشفيات والجامعات والبنى الأساسية التي انهارت في قطاع غزة سوف تُعمِّرُها سواعدنا بإذن الله، وأرضنا المباركة باقية ونحن وذرياتنا باقون، تشهد آيات الإسراء علينا، وما نص به اللوح المكنون، فهل أنتم باقون أيها العرب أيها القادة المسلمون؟! كلكم مدينون ليس لفلسطين وحدها وليس لآمال شعبها؛ بل مدينون بتلبية الواجب والالتزامات القومية الأساسية التي بدونها لا يوجد شيء يُسمى "الأمة العربية".

غزة والاختبار الأخلاقي الحقيقي لكل شعوب العالم المسلم والعربي والغربي وكل الشعوب الحرة، اختر درجة المصداقية، اختر موقفك من الإبادة الجماعية، عزز اختيارك بالفعل والقول والكلمة والوقفة والصوت والصورة والمقاطعة للمنتجات الداعمة للصهاينة، اختر درجتك الأخلاقية، وتحسَّس يقظة ضميرك الإنساني فهل هو مدرك لفداحة الأحداث التي نعيشها، وهل استطاع التكيُّف مع الـ224 يومًا الماضية دون أن يتغير فيه شيء للأبد؟!

الأكثر قراءة