الأُسطورة والوهم

 

د. صالح الفهدي

دخل الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه، على رستم فرخزاد قائد جيش الإمبراطورية الفارسية في اعتدادٍ، وثقةٍ، وهو يمتطي فرسهُ، ويتمنطقُ بقطعةِ غنمها من الفرسِ إِذلالًا لهم، له منظرٌ مهيبٌ؛ فقد كان من أطول العرب شَعرًا ضفَرَه في أربع ضفائر، وحمل كنانة السهام على ظهره، وتمنطَّق بالسيف، وتدرَّع بالدرع والترس، وكانَ إلى جانبِ كونه قائدًا عسكريًا باسلًا، مفاوضًا شجاعًا؛ إذ قال لرستم: "لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة" وكانت هذه الكلمات بمثابة هزيمة له قبل هزيمة الميدان.

وفي كتاب "الفتوحات الإِسلامية في عهدِ الصديق" وردَ أن خالد بن الوليد سار إلى الحيرةِ، وكان عليها من قِبل الفرس هانئ بن قبيصة الطائي، فقال له خالد: إنني أدعوكم إلى الله وإلى عبادته، وإلى الإِسلام، فإن قبلتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد جئناكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم شرب الخمر. فقالوا: لا حاجة لنا في حربك، فصالحهم على تسعين ومئة ألف درهم".

تلك الأُمم- الرومانية والفارسية- في ذلك الوقت أحاطتها الأَساطير بالهالةِ الفخمة التي أشاعت الوهم بأنها أُمم لا يمكنُ أن تقهرَ جيوشها الجرَّارة، بيدَ أنَّ الأحداث التاريخية بيَّنت انكسارها، وهزيمتها على رغم أعدادها المهولة، وعتادها العظيم، والسببُ يعود في ذلك إلى العقيدة التي يمتلكها المسلمون الذي رسخ فيهم الإِيمانُ بالحقِّ، واليقين بنصرِ اللهِ لهم، ولهذا قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقائدٍ من قادةِ جنده وهو يودِّعه: "إن هُزمتَ فليس لقوةٍ في عدوك، وإنما لضعفٍ فيك" ليسبقَ أَيَّ عذرٍ يتعذَّرُ به القائد لاحقًا أمام أمير المؤمنين إنْ هُزِمَ جيشه.

العقيدة هي التي تتفوَّقُ على العدوِّ الذي لا يملكُ عقيدة ترتبطُ باللهِ، وإنما مجرَّد طاعة لحكَّامه، وإذعانا لقادته خاصَّة إن كان غازيًا، أو محتلًا، وهنا لا تُرهب صاحب العقيدة مخاوف لأنه ارتبط إيمانيًا بالله سبحانه وتعالى "قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" (البقرة: 249).

ولننظر للأحداث العظيمة التي هزَّت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي "لا يقهر" في السابع من أكتوبر 2023؛ حيث تبيَّنَ بأنَّ تلك الأُسطورة الدعائية التي روَّج لها الكيان الغاصب وتبنَّتها الدول الغربية بل وبعض الدول العربية قد انهار وهمها، حتى في واقع المعارك فإِنَّ الأسلحة التي تفاخرُ بها الجيش الصهيوني كمركبة النِّمر، ودبابة الميركافا قد تحطَّمت بقذائف "الياسين 105" وهي قذيفة محلية الصنع تعمل بالترادف..! أما الجيش الذي صُوِّر للعرب بأنه الجيش الكاسح الذي لا يمكن أن يُهزم، فلم يكن السابع من أكتوبر قمة انكساره وهزيمته وحسب؛ بل وتوالت هزائمه وانكساراته المتوالية بعد دخوله غزَّة العزَّة وعلى أيدي فئة بسيطةٍ استطاعت أن تلقي الرُّعب في جنوده الذين يعالَجون بأعداد كبيرة من التداعيات النفسية الناتجة عن فقدان العقيدة الأصيلة، أما البعض الآخر فيعصي أوامر الدخول إلى غزة "مقبرة الغزاة" بحجَّة أنه لم يتلقَّ التدريبات الكافية، وهي حجَّة واهية؛ إذ الحقيقة أنه لا يملك عقيدةً تدفعه لإلقاء روحه في مهاوي الرَّدى فداءً لقضيَّةٍ عادلةٍ، وحقٍّ مكتسب، فهو يدرك أنَّه محتلُّ غاصب، لا يملكُ حقًّا في الأَرض، ولا في قتل الأبرياء من شعبها.

الأمر الأهم هو الطبيعة النفسية لليهود وهي طبيعةٌ تتسم بالجبن، يتوارثونها في جيناتهم الفاسدة، ذكرها القرآن الكريم منذ أكثر من 1400 عام؛ حيث نزلت آية تصفهم بالجبن في يهود بن النضير، يقول الحق سبحانه وتعالى: "لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ" (الحشر: 14).

هكذا هو حالهم اليوم لم يتغيَّر أبدًا، تسمع تصريحات قادتهم في مجلس الحرب فتحسبهم جميعًا، ثم تعلم أنهم يتصارعون ويتلاعنون داخله وخارجه فقلوبهم شتَّى، زرع الله الرعب والجبن فيهم.

والمؤسف أن المسلمين لم يستوعبوا ما جاء في هذه الآية الكريمة وهم يقرأونها؛ بل استكانوا للأسطورة عن قصدٍ وغير قصد، حتى خرجت فئة لا يعنيها شيءٌ تحبُّ الموت حب العدو للحياة، ففقأت عين الفقاعة الموهومة، وأسقطت الجدار، وساقت الجرذان، وسَطَت على أوكار التجسس، فلجأ العدو إلى "حرب الجبناء" ليقصف الأبرياء من الجو ليقتل الأبرياء، ويحصد أرواح آلاف المدنيين من النساء والأطفال والرجال دون رحمة.

خلاصة القول.. إنَّ من يمتلك عقيدة راسخة الإيمان فلا أسطورة تخيفه، ولا وهم يرعبه، وإنَّما هو موقنٌ بالنصر "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (الحشر: 7)، وهُنا فإنَّ على الأمة العربية الإسلامية أن تسقط هذه الأوهام التي احتمت وراءها إسرائيل؛ فالهزيمة -كما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه- إنما هي بفعل ضعف العقيدة وليس لقوة العدو، أفَبَعْدَ ما حدث لا تزال الأُسطورة الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية والأوروبية تخيفُ العرب المسلمين الذين سُلبت حقوقهم، ونهبت ثرواتهم، وخذلت دولهم؟!

إنَّ الأُسطورة لا شيء في حقيقتها غير الوهم الذي لا ينطلي سوى على المعدم من عقيدته، المفرغ من إيمانه، ضعيف اليقين بنصر الله له وتأييده له، أما من لم ينطلِ عليه الوهم فلم تضعفه قلة عدده وعتاده، وما يحدث في غزة هو الذي يُجلي بصائر وأبصار الذين يرشدون.