الناصح الزائف

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

 

يتعيَّن علينا قبل الاقتراب من مُزدلف تعمّد ثني تكاتف الإرادة الشعبية العامة أن نصطنع حبكًا ذهنيًا يحكِّم ماسنتطرق له من حيث القدرة على تخيل معايشة الحدث ووضع المرء نفسه في الموقف الذي عايشه الآخر، وهو ليس بالأمر الممكن عمليًا وإن حاول جاهدًا معايشة تلك التجربة فلن تكون إلا محاكاة لا تفسر علائق النفس الداخلية ولا تُمكِّن من فهم كل المشاعر المصاحبة -السابقة واللاحقة- لمن خبر التجربة على أرض الواقع حدثًا وفعلًا.

وقد يحاول آخر الخروج من واقعه من خلال التركيز الذهني العميق لتقمص الظروف ومحاولة الولوج إلى عالم قاسٍ لم يختبره قط وربما ينجح في حدودٍ بسيطة من حيث غلبة التأثر الجسدي والعضوي عليه ظاهريًا لكن ستبقى كلها في إطار المحاولات التي قد تتخللها بعض العواطف المعتمدة على القدرة التخيلية وهي متفاوتة من شخصٍ لآخر وماتلبث أن تنتهي فور انتهاء استحضار تلك التجربة.

لكل إنسان تجاربه الخاصة بين المفرح منها والمُحزن والحلو والمُر ولا يُقدِّر مستوى وقعها على النفس إلا من مرَّ بنفس التجربة، كفقد عزيز أو خوض تجربة أوشكت أن تودي بصاحبها إلى الهلاك كما أنَّ هناك تجارب كثيرة تطبع في الذاكرة الإنسانية دمغة لا تُمحى كحمل أول مولود مثلًا أو مشاهدة البحر لأول مرة أو الكعبة المشرفة وغيرها من أمثال هذه التنبيهات العاطفية، ولكن هل يحق لي الحديث عن تجربة شخص بعيد لا أعرفه وتحليلها بقصد تبسيطها وأنا لم أختبرها من قبل لأخلص أخيرًا بإلقاء اللائمة عليه وربما التكذيب في بعض الجوانب باعتبار النتائج المترتبة عليها ثم تفكيكها تدريجيًا للتقليل من أهميتها أو عدم ضرورتها؟ بالطبع لا يحق لي ذلك إطلاقًا.

معظم الناس مروا بتجربة سعيدة وحزينة والكثير منهم عايش حمل مولوده الأول وشاهد البحر والكعبة المشرفة، والقليل منهم من خاض تجربة الاقتراب من الموت، ولكن كم عدد الناس الذين شاهدوا المسجد الأقصى المبارك وصلوا فيه؟! وكم عدد الذين عايشوا ظلم وقهر الاحتلال واختبروا تجارب الموت يوميًا؟! كم عدد الذين كانوا أطفالًا لم يحملهم آباؤهم ونشأوا في ضنك دون أن يتسنى لهم شراء لعبة واحدة؟! كم من النَّاس حول العالم الذين قضوا عشرات السنين في سجون المحتل الغاصب ظلمًا ليخرج بعد ذبول زهرة شبابه؟! كم عدد الصبيان والفتيات الذين يقضي آباؤهم وأمهاتهم في المعتقلات الصهيونية الجائرة دون أية تهمة؟!

كيف يسمح شخص بتنصيب نفسه على المنابر ليتحدث عن تجارب أولئك الناس وهو لم يعايش جزءًا من الألف منها، ثم يُلقي باللوم على من أخذ على عاتقه الدفاع عنهم وانتزاع حقوقهم المغصوبة بالوقوف ندًا في وجه قوى الكبر والبطر، ومن هو الأحمق الذي يلوم المقاوم المشحون بالحزن والألم صاحب الأرض والعرض في كفاحه النبيل لاستحقاق حريته؟!

خلال ربع قرن أو يزيد من الاحتلال الهولندي لأندونيسيا والإنجليزي للهند ومصر والفرنسي للجزائر وتونس والإيطالي لليبيا والصومال قام الكتاب الغربيون بتأليف أكثر من 50 ألف كتاب يدور معظمها حول محاولات تزييف الوعي العام للشعوب وتبسيطه واعتباره استعمارا وليس استخرابا واستهداما وتطفلا، فأين هو اليوم ذلك الاستعمار المزعوم؟! غير موجود باستثناء فلسطين وهانحن اليوم نرى تزييف الوعي من خلال تزوير الحقائق إعلاميًا وقلبها من كبار القادة الغربيين لتصب في مصلحة المحتل الصهيوني المتلحف بجلباب اليهودية الفضفاض وذلك لإضفاء مسحةٍ شرعية على وجوده وجرائمه.

لقد سلمنا بكل ذلك وتحرر العالم من فقاعة نظرية المؤامرة وإنعكاس ألوانها المريب بعد أن سقط القناع الغربي الكالح وبلغنا مبلغ اليقين مع ما نسمع ونشاهد، ولكن ما بال بعض المسلمين العرب قد وقعوا في شراك المفتريات وحبائل الإفتآت ومجاهرة الناس بالطعن في حقيقة الجهاد وخطر ما بعده وما هو آتٍ؟!

هذه الأصوات المرفهة التي انبرت مؤخرًا لتشكك في صنائع المقاومة الفلسطينية ليست كثيرة؛ بل قليلة منزورة ولا هي ممن عرف عنها عظيم علم وعلو هِمَم وفيض تصنيف وتأليفٍ كثيف وهي شذوذات تنعق خارج السرب إرجافًا وتخذيلًا، وحتى إني أشكك في قناعتها الشخصية بما تقوله، ونعلم أن رجالات المقاومة في سموها لا تعيرها بالًا ولا تقيم لها وزنًا، وشتان بين مسابح الأسماك ومسالك الأفلاك، ولكنها -الأصوات- تحاول إدخال وعي النَّاس في الشكوك من خلال استخدام عامل تكافؤ قوة الردع من الناحية العسكرية والإدارية وهي بلا شك مقومات أصيلة في الجانب المادي المعايش والملموس ولابد من توفرها في الشكل المنطقي العام وهذه عقيدة عسكرية صلبة تستقيم دائمًا في حالة التوازن العقلاني والواقعي إذا ما أستبعدنا الأخذ بالأسباب وإعداد العدة بحسب الاستطاعة والتوكل على الله، ولكن إذا دخلت هذه الثلاثية مع المقومات السابقة في عقيدة القتال فإن الموازين ستختلف وعامل قوة الردع المكافئة بشكل كامل سيتغير وهذا ما أثبتته كل الحروب التاريخية بين المسلمين وأعدائهم.

ينقسم القادحون المتكيفون على الأرائك قليلو الخبرة بتجارب الحروب والمعارك إلى عدة أقسام ولسنا هنا بصدد فرز المؤدلج منهم ولا العقلاني المنطقي أو الشاعري العاطفي أو دون ذلك من مُحرِضٍ مُستعمَل ومرتزَقٍ مُقتات، إلا أنهم يتفقون جميعًا بأنهم لايعون تمامًا المعنى الإيماني الغزير لحقيقة الجهاد والنضال مهما ظهروا بمظهر الدين والعلم والمعرفة على منابر المساجد والإعلام وقد وقفوا بين جزلتين، فالأولى نزعت إلى المبادئ الدنيوية ذات العدة والعتاد والعدد لنيل المراد والثانية ركنت إلى اللعب على وتر العاطفة وموت الأبرياء وتحقيق النصر المجاني على طاولة المفاوضات دون تضحيات ألا أن ثمن الحرية باهظ لا يمكن للعاطفي تحمل كلفته.

إن تزييف وعي العامة من خلال محاولات تمويه منطقية قد تنطلي على بعض العقول وإحباط المعنويات بكسر إرادة التحدي من أناس لا خبرة لهم في معايشة تجارب إنسانية قاسية لهو من أخطر الأمور في مرحلة حاسمة تتطلب اصطفاف الجميع في خندق مقاومة التحرير الفلسطينية "الآن" وإن لم تحقق أهدافها فربما لن يكون بعد اليوم الآن "لمن ألقى السمع وهو شهيد".