حررينا يا غزة

د. سعيدة بنت خاطر الفارسية

كيف تلهث الكتابة حين تصوم الحروف وتفقد شهية الكلام؟ كيف تقنع الأصابع بأن حراكها تباركه الدماء، وترشه السماء الصامتة عن أية ردة فعل تتجاوب مع الصاعدين إليها كل حين، بدون كفن بدون ماء، عطاشى يأملون أن تغيثهم قطرات رحمة تدخر شيئًا لهم.

وهنا أمة تكاد تتبخرُ، أحلامها خواء، وفعلها هباء، ونبضها رياء.

كانت غزة تتابع نومة الغفلة طويلًا، وتسمع شخير التناسي الذي علا صوته فصم أذنيها، كانت ترى أمة بلا ملامح، أمة لها عيون ولا تنظر بها، لها آذان ولا تسمع بها، لها عقول مختومة لا تستعمل، فهناك من يفكر لها ويعبث بها، أمة أصبح عدوها حبيبًا، وقريبها غريبًا، أمة متصحرة القول والفعل والأحاسيس، كانت غزة تنام ولا تنام حسرة ووجعًا على ما آل إليه مصير إخوتها اليتامى بلا راعٍ يهش عليها بعصاه؛ فراقبت وراقبت ودرست وخططت ماذا أفعل كي أنجو بإخوتي وبنفسي مما حلَّ بهم وبي، لا أستطيع أن أسكت أكثر مما سكتُ، كاد الطوفان أن يغرقني، وبقربي وجع لا يهش ولا يكش، وجع يريد منَّا أن نصرخ صرخة سلمية، وحلٌ ومستنقع قد يدفنني ويدفن قضيتي للأبد، ماذا أفعل؟ سنوات تكرر هذا السؤال.

وفي غفلة من الأنس والرقص مدتْ غزة يدها الشريفة المضمخة بقبضة من تراب هاشم بن عبد مناف الذي توسد  تراب الرحلتين، رحلتي الشتاء والصيف، قالت غزة يا أبتِ ماذا أفعل؟ قال أيقظيهم فهم رقود، قالت بل أموات لا يسمعون، لا يرون، لا ينطقون، قال: أنت صحوتهم من الممات فهيا مديهم بالنبض والدماء.

مدت غزة الضعيفة المحاصرة الصغيرة يدها فتدفق من شرايينها دماء المعافاة نهض الصغير قبل الكبير، المسلم قبل العربي، ونهضت الإنسانية في كل مكان، غزة حررينا نحن الأسرى وأنت الحرة الوحيدة.

قالت مصر حرريني فقد تصهين الفضاء والتراب والماء، ونام حراسي فعاثت في جناتي الثعالب التي لم تبشم من سرقات العنب، كررتها مصر حرريني فلم أعد قادرة على البقاء، صاحتْ بغداد حرريني يا غزة، ذهبت أمجاد الرشيد والمأمون والمعتصم، وحلتْ علينا لعنة السماء، قواعد الشر عيونها تحيط بأهلي ولا يستطيعون الدفاع، والخلاص من عين الأسد الماكرة، وعصاباتهم الفاجرة، لايريد سوى النوايا الصادقة، يريد الأوفياء.

صاحت الضفة يدك يا أختاه أكاد اختنق من المتخاذلين الجبناء من لا أعرفهم ولا أعرف من أين جاءوا وجاء، عبس وتولى ثم عبس وعبس وترك الأرض حلالا لكل بغاث الأرض والسماء، قائلا تظاهروا سلميا بحنان.

التفتتْ غزة إذا بدمشق العروبة تبكي حال المسجد الأموي من الرايات السوداء التي تخنقه فلا وجه عبدالملك بن مروان ولا عمر بن عبدالعزيز يُعيد الخلافة السمحاء.

وسمعتْ قلعة حلب الشهباء تتساءل أين سيف دولتي ومتنبيه؟ ولماذا لم تأتِ على قدر أهل العزم العزائمُ.

التفتت غزة إلى بقعة قصية كان بها جنتان، بلدة طيبة ورب غفور، هي مصدر العرب والنقاء فأصبحت فارغة إلا من التناحر والبغضاء وذهب عرش بلقيس وتبدد البهاء.  وما هذه أليست جزيرة محاطة بالماء، إنها شبه جزيرة غناء كساها الله بالخيرات ونامت على حرير الرخاء، عاليها الكويت مكللة بالنور في كل بيت، ويلبس شموخها الأحرار بقربها شامخة قطر تحمل اللواء، وبقربها مكة تنتحبُ وهناك مدينة تنورت بقبر صاحب الحرم الذي رآكم كثرة ولكن كغثاء السيل والهباء.

وتلتمع جوهرتان في الجنوب شرقها لواء متوشح بالإيمان شبابها كنوز يدخرها الزمان تمخر أمجادهم بحرا تطارد قراصنة البرتغال، مشيدة إمبرطورية ممتدة الأركان، جوهرة كل يوم يتسابق شبابها لنصرة حبيبتهم فلسطين وعروسها غزة، ونبضهم الصارخ بهمهم العروبي يكتحل بأمجاد عُمان.

ومن أقصى الشمال نادتها الكبيرة عروبتها وكرامتها وكرمها موريتانيا العروبة والنقاء، وليبيا أسد الصحراء، ووجه مختارها تلبسه غزة اليوم "نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت"؟

وهذه القمم الخضراء أرض ملايين الشهداء أرض الصمود ورمز التحرر والحرية التي هزئت بآسرها، وأسدلت قميصها على وجه غزة فعادت مبصرة مستنيرة تردد: "قسما بالنازلات، الماحقات والدماء الزاكيات/ الطاهرات والبنود اللامعات الخافقات". ثم تونس المضاءة بعزائم شبيبتها التي يعانقها حقاً شوق الحياة، وأبت "أن تعيش دوما بين الحفر"، لكن هناك نقطة واحدة تصطف بينهم تكدر النور المنبعث، كيف طبعتْ مع الخنزير المتعطش لشرب الدماء ألم تردعه شجرة النسب الشريف إن صدق الادعاء!

وتدحرجت من غزة دمعة إلى الجنوب؛ حيث يلتقي حُب العروبة بعناق أبدي كما يتعانق النيل الأبيض مع الأزرق وجمال الخرطوم وعزتها عبثت فيه المطامع والأهواء.

عادت غزة إلى عرينها ومدتْ يديها في كل اتجاه سأحرركم جميعًا فاتبعوني ولا خوف ولا شجب ولا تخاذل الضعفاء.

 هنا غزة.. هنا الحياة تنبثق من الموت.. هنا الوطن المظفر يصحو وراياته ترفرف أكاد أراها واشتم عبير نصرها..

هنا أنا غزة حررتكم فعاد النظر ولا عماء حررتكم ولا صمم ولا وباء حررتكم فلا بُكم أنتم، ولا لغة مشوهة الهجاء، هيا معي القدس تنتظر طهارة القلب إليها نعرج كما عرجت قوافل الشهداء، قم لنسري في أرض الإسراء، هيا فقد أفسدوا في الأرض وعلوا علوا كبيرا، هيا لنتبرُ ماعلو تتبيرا، ولنحقق الوعد؛ هو وعدنا السماوي المقدس.. هو وعدنا السماوي المقدس.

تعليق عبر الفيس بوك