قراءة فنية في قصيدة "نبراس الحماس" للقاضي عيسى الطائي

 

ناصر أبوعون

لقد تواتر في الأثر قولٌ جرى مجرى الحكمة على ألسنة الناس منسوبٌ للإمام عليّ- رَضِيَ اللهُ عنه- ونصُّه: «الحَقُّ لا يُعْرَفُ بالرِّجالِ، وإنَّما يُعْرَفُ الرِّجالُ بالحَقِّ؛ فَاعْرِفِ الحَقَّ تَعْرِفُ أَهْلَه».

وفي هذه القصيدة التي نستعرض جماليات معمارها البنائي، وأساليبها الفنيّة الثرّة، التقى تحت أغصانها الغنائية الوارفة بالمعاني، واستطاب أناشيد البطولة على وقع تفاعيلها طربا رجلان مشهود لهما ببأس الكلمة، وصدق الرواية، والقبض على جمر الشريعة بيد من حديد، هما: (المادح=الشيخ عيسى بن صالح قاضي قضاة مسقط والممدوح= المناضل الجزائريّ إبراهيم بن عيسى، أبو اليقظان) على جداول العروبة الصافية الرقراقة والتي لا مفاضلة بينها إلى بميزان التقوى، فتساقيا أقداح الوحدة الإسلامية المبتغاة، وتعاهدا على عروة الإيمان الوثقى، التي لا ينقض غزلها إلا مَن فؤاده هواء، ولا يقطع حبل عصمتها إلا منافق. رجلان تحابا في الله شبيهان في علو الهمّة، وأصالة الفكرة، جمعهما النضال بالكلمة تحت رايته، واستظلا في أفياء الشريعة الإسلامية تحت شجرة الفقه، وامتطيا جِياد الشعر، وقبضا على أعنّة البلاغة، وجردوا سيف اللغة من غمده، وتمنطقا بنور الحكمة، ونَصَبَا أقواس النصر على بوابات الوطن العربي الكبير، وقلَّدا المجاهدين ضد البغاة المستعمرين نياشين الفروسية، ونثرا لآليء الكرامة على رؤوس الأشهاد، فأضاءت طريق التحرر والاستقلال أمام الأجيال المعاصرة والمتتالية، واستوقدا شعلة الحضارة من تراث آبائهم ليبقى الأمل دائما معقودا بنواصي الخيل.

أبو اليقظان شيخ الصحفيين

إبراهيم بن عيسى، أبو اليقظان (1306- 1393هـ/ من مواليد 5 من نوفمبر 1888- وتوفي في 30 من مارس 1973م) مفكّر وفقيه وصحفِيّ وأديبٌ من مدينة (القرارة) الجزائرية، وكان مسقط رأسه بقرية (وادي ميزاب)، وهو أحد الأعضاء المؤسسين لـ(جمعية العلماء المسلمين) بالجزائر، أسَّس وأصدر في 6 سنوات متتالية وتحديدا في الفترة ما بين (1926- 1938م) 8 صحف عربية، رفعت راية الجهاد ضد المحتلين في شمال أفريقيا وهي وِفْقَ ترتيب صدورها: (وادي ميزاب، ميزاب، المغرب، النور، البستان، النبراس، الأمة، الفرقان)، وكانت جميعها مناهضة للاستعمار البريطانيّ والفرنسي والإيطاليّ فتكالبوا عليها، وأغلقوها واحدةً تلو الأخرى خوفًا من تأثيرها التنويري، ودورها الناشط في استنهاض الأمة من رقدتها، ودعوتها إلى التحرر من نير الاستعمار الغربيّ الصليبيّ، ورفعها رايات الحرية الخفّاقة على شرط الشريعة الإسلامية لا وِفْقَ النموذج الغربيّ الانحلالي واللأخلاقيّ، ومن المباديء الشهيرة التي روّج لها أبو اليقظان في كتاباته وأحاديثه وتردد صداها بين الشرق والغرب قوله:"إن للحرية ثمنا، ولا تحصل بالخيال والأماني، فحرية التفكير والقول والعمل يجب أن تكون في دائرة الدين الحق.. فهذه هي الحرية الحقة التي تستمد نورها من الفطرة البشرية السليمة، لذلك يجب أن تكون حرية التعبير والنشر والتفكير بعدم الخروج عن تعاليم الدين الإسلامي والآداب العامة والقوانين الشرعية". فضلا عن الجهر بدعوته إلى الجهاد المسلّح وتنظيم صفوف المقاومة الوطنيّة دفاعًا عن الدين والوطن قائلا: "ليس من الحرية أن يتم إلحاق الضرر بحرية الآخرين، لكن ذلك يقتصر على الحرية بين أفراد المجتمع، أما إذا كان الأمر يتعلق باستقلال بلد من براثن الاستعمار، فوجب استعمال السلاح دفاعا عن الدين والوطن".

مصادر القصيدة

وردت هذه القصيدة بتمامها وبدون تصحيف أو تحريف في أكثر من مصدر؛ ومن أحدث المصادر التي أثبتتها ديوان الشيخ عيسى بن صالح الطائي، بتحقيق حارث بن جمعة بن سعيد الحارثيّ؛ ص: 60/61/62، وفي كتاب: (القُصائد العمانية؛ ص:180)، كما ضمَّنها إبراهيم بن عيسى أبو اليقظان في كتابه:(سليمان الباروني باشا في أطوار حياته؛ 1/238)، كما وثَّقها الشاعر العلاّمة محمد بن راشد بن عُزيِّز الخُصيبيّ في موسوعته الشعرية الموسومة بـ(شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعراء عُمان؛ 3/202)، وهي مُثبتة في نسخة مخطوطة بقلم الناسخ محمد أبو الحسن شحاتة في كتاب (البلبل الصدَّاح والمنهل الطفاح في مختارات الأشعار الملاح؛ ص:256) للخُصيبيّ، وهي من مقتنيات الباحث والمحقق سلطان الشيبانيّ الذي رقنها ثم ألحق بها صورتها المخطوطة في كتابه: (المتفرّق من أشعار الشيخ عيسى بن صالح الطيواني) الصادر عن في سلسلة: أبحاث صنعة الدواوين العُمانية، ص:68/69 في طبعة رقمية بتاريخ المحرم 1443هـ - أغسطس 2021 عن (محبوب للنشر الرقمي).

الدور التنويري لأبي اليقظان

آمن الشيخ عيسى بن صالح بأن الكلمة نور، ومصابيح للفكر نستضيء بها في الطريق إلى الله، غيث ينزل من السماء فتحيي النفوس الجدباء، نهر يشق الأرض اليباب فيحيي القلوب التي جفت شرايين إيمانها، فلج يسّاقط ماؤه من مزنة تعبر صحارى العقول فتهطل بالنماء، وسيف يقين يحزُّ رؤوس الشياطين التي عششت في الأدمغة المؤدلجة، ونيران تهبّ في أوصال الغيورين على أوطانهم، وزأرة آسادٍ تسقط أسنان الضباع التي تجرأت على عرينها، وشمس تبدد غبشة الفجر وتشق أغشية الضباب، وبعث جديد لقيامة جديدة للشعوب الآيسة من الانتصار. وقد كان يرى في نضال أبي اليقظان الجزائري قدوة تُحتذى في المقاومة بالكلمة، ومنهاجا مستقيما يُوصى باتباعه فقال فيه:[(أَيْقَظْتَ مِنَّا أَبَا "اليَقْظَانِ" مَنْ رَقَدَا // لمَّا بَعَثْتَ بِنَظْمٍ أَنْعَشَ الْكَبِدَا) (بَعَثْتَ أَنْوَارَ (رُوِتِنْجِنْ) يَبُثُّ بِهَا // رُوْحَ الْحَيَاةِ فَصَارَتْ كَالبُدُورِ هُدَىَ) (أَفْرَغْتَ فِي قَالِبِ الإِخْلَاصِ مُجْتَهِدًا // إِحْسَاسَ شَعْبٍ إِلَى شَعْبٍ يَمُدُّ يَدَا) (أذكيتَ بالشعر نبراس الحماس به // فعاد بحرا خضما يقذف الزبدا) (أيقظتَ مِنْهُ أَبَا اليَقْظَانِ نَائِمَةً // فَهَبَّ مُسْتَأْسِدًا مِنْ بَعْدِ مَا رَقَدَا) (وَحَّدْتُمُ الشَّعْبَ حتَّى صَارَ مُغْتَبِطًا // وَكَانَ مَنْ قَبْلُ فِي آرَائِه قِدَدَا)].

الدعاء بالانتصار لأبي اليقظان

كان شيخ الصحفيين المجاهدين الجزائريّ موطنا، الإباضيّ مذهبًا إبراهيم عيسى أبو اليقظان لا يغادر حلبة الصراع مع أذناب الاستعمار، وقادته، ولا تهدأ له ثورة، ولا تخمد له فورة، ولا يهن وهو الأعلى، ولا يفت طغيان المستعمرين في عضده، صامدا كالجبال لا تهزه ريح البطش والترويع.

ورغم توالي الضربات القاصمة التي تتربص بأبي اليقظان أينما ولى وجهه شطر الحرية، إلا أنّ اليأس لم يقضم رباط قلبه؛ وإذا ما أغلق له (الفرنسي الشُّوفينيّ) صحيفةً أصدر غيرها، وكلمّا صادر له (الفاشيستي الإيطاليّ) نُسخا من جرائده طبع أضعافها، وإذا ما ضيّق عليه الإنجليزيّ المتغطرس صدره وعدّ عليه أنفاسه في مصر المحروسة إلا وتَفلَّتَ من بين أنيابه، وراوغ مطارديه في الأزقة والحارات، وبذل المال ومهجة النفس في سبيل إعلاء كلمة الحق، وواصل الليل بالنهار في سبيل الحرية، وآمن بسيف الكلمة القاطع ظلمات الشك باليقين في تحرير المشرق العربي من ربقة الاستعمار الذي جثم على صدر أمتنا يمتص مقدراتها، وينهب ثرواتها، ويقسّم جغرافيتها وِفْق أجندة الطائفية المقيتة، ويرسم الحدود على مقياس بوصلة الصراع المذهبيّ؛ ليُبقي بنيها بعد رحيله في دائرة صراع لا تخمد ناره، ولا ينطفيء أوراه. وفي هذا المعنى أرسل إليه شاعرنا عيسى بن صالح الطائي مشجعًا: [(شِانِيكَ يَكْتُمُ شَمْسًا وَهِيَ مُشْرِقَةٌ // يَا لَيْتَهُ جَانَبَ الشَّحْنَاءَ وَابْتَعَدَا) (إِلَى الأَمَامِ أَبَا الْيَقْظَانِ أَنْتَ لَهَا // فَاصْدَعْ بِرَأْيِكَ وانْبُذْ رَأْيَ مَنْ جَمَدَا) (وَدُمْ وَإِخْوَانُكَ الأَبْطَالُ تَحْرُسُكُمْ // عِنَايَةُ اللهِ مِنْ شَرِّ الَّذِي حَسَدَا)].

وصف عمان

على الرغم من نجاح الاستعمار الأوربيّ تحت إمرة (بريطانيا العظمى) في تثبيت دعائم البعثات التبشيرية، ودعم الإرساليات الإنجيلية تحت غطاءات شتى؛ إلا أنّ سلطنة عُمان ظلت بمنأى عن الغواية، والوقوع في فخاخ التبشير، والانسياق وراء الدعوات التغربية والفكرية التي ظاهرها التنوير وباطنها شرٌ مستطير، تُغذِّيه نار وقودها الطائفية، وحجارتها التقسيم على الهوية والمناطقية والمذهبية، ولم تكتوِ عُمان بلهيب الحداثة المُدّعاة، وظلت مشرأبة الرأس تزود عن حياضها كلَّ وَالِغٍ، وتدافع عن دينها وأرضها بسلاح الكلمة، وحراب التسامح التي تفقأ عين الساعين إلى الفرقة والشتات فضلا عن القوة الخشنة التي تخرج في الوقت المناسب. وهنا يخاطب الاقاضي الطائيّ ممدوحه أبا اليقظان قائلا: [(هَذِي عُمَانُ لِمَا أَسْدَيْتَ شَاكِرَةٌ // تُهْدِي سَلَامَ مَشُوقٍ نَحْوَكُمْ أَبَدًا) (فَشَعْبُهَا ذَلِكَ الشَّعْبُ الَّذِي أَنِفَتْ // هِمَّاتِه أَنْ يَرَى فِي دِينِهِ أَوَدَا)].

الإشادة بـ"ميزاب" الجريدة والمدينة

إذا كان المكان هو ذاكرة التاريخ الحيّ الذي يمشي بين ظهراني الأمم على قدمين؛ اليُمنى هي "الإيمان" المستند إلى عقيدة إسلامية راسخة، واليسرى هي "الوعي" المُتجذّر في اللُّحمة الوطنيّة التي لا يجد لها المستعمر سبيلا لانتزاعها وتمزيق أواصرها؛ فإنّ "وادي ميزاب الجزائريّ" مازال إلى اليوم وإلىأن تقوم الساعة واسطة العقد، والعروة الوثقى، ورباط المذهب الإباضيّ الذي لا يُسلم قياده لمستكبر أو مستعمر؛ لأن جماع وحدته مبنيٌ على عقيدة راسخة لا تفصم بين وحدة الدين والوطن، بل تذيب الإثنين معا في شخصية المواطن في سيمياء وجها وتشريحه جسده صفحة الوطن، وفي سويداء قلبه دين الإسلام. وهنا نجد شاعرنا عيسى الطائي يشيد بـ"ميزاب" وهي يحتمل تاويلها على وجهين؛ أمّا الوجه الأول فربّما يقصد به "جريدة وادي ميزاب" التي كانت نبراسًا في الجهاد بالكلمة ضد كل محتلّ استوطن بلاد العرب من المحيط إلى الخليج، وأمّا الوجه الثاني فيحتمل أنها تشير إلى "وادي ميزاب"، مسقط رأس المجاهد الصحفي أبي اليقظان، وقد أشار إليها الزركلي في الأعلام:4/62، وأرّخ لها أبو القاسم سعد الله في موسوعته التاريخية: تاريخ الجزائر الثقافي: 5/378، وجُلّ سكانها على المذهب الإباضيّ، وتضم قُرى عديدة من أشهرها: (القرارة)، و(العطف)، و(بني يسجن)، وفي كل قرية مجمع للعلماء يُسمى (مجلس العَزَّابة) جمع (عازب) وتعني (العزوفين عن الدنيا والمنقطعين للعلم وتدارس الدين، وكل مجلس يألف من 10 أشخاص يقومون بدور القضاء بين الناس، ومن أبى النزول على حكمهم أعلنوا البراءة منه، ودعوا الناس إلى مقاطعته حتى يرد الحق ويتوب إلى ربه. ومن بديع ما قاله شاعرنا عيسى بن صالح الطائي فيها: [(تِلْكَ "مِزَابُ" لَنَا رُكْنٌ نَطُولُ بِهِ // وتَاجُ فَخْرٍ عَلَى هَامِ السِّمَاكِ غَدَا) (كَمْ أَطْلَعَتْ مِنْ بُدُورٍ يُسْتَضَاءُ بِهَا // وَأَوْجَدَتْ لِلأَعَادِي فِي الوَغَىَ أَسَدَا)].

وصف الدور الجهادي للبارونيّ

ثم يُعرِّج شاعرنا عيسى بن صالح الطائي على ذكر ثلاثة من الأعلام الأماجد الذين أضاءوا كمشكاوت في مصابيح الدُجى تنثر لآليء الإيمان نجيماتٍ تلمع بالفخار وتتفصّد في جبين التاريخ العُماني، حبّاتٍ وضاءة المُحيا، ناصعة السريرة؛ فألمح إلى الدور الجهاديّ والنضاليّ بالسيف والقلم الذي قام به سليمان باشا البارونيّ في مواجهة الاستعمار الإيطاليّ في ليبيا، وانتقاله إلى عُمان بإذن من (السلطان السيد تيمور بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي (1886م - 1965م)، واستقبله الإمام ( محمد بن عبد الله الخليلي) إمام أهل عُمان في المنطقة الداخلية طوال 35 عاما (1919م-1954م)، واشتُهِر في صفحات التاريخ باسم (إمام الاستقرار والأمن السلام)، ثم تحدث شاعرنا عن الإصلاحيّ القطب الإباضيّ العلامة الفقيه محمد بن يوسف أطَّفَيِّش (1820م-1914م)، من (بني يزقن بمدينة غرداية) الجزائرية؛ قائلا: [(مِنْهَا الْبَرُوِنِيّ لَيْثُ الحَرْبِ مُسْعِرُهَا // مَنْ صَارَ فِي خِدْمَةِ الإِسْلَامِ مُنْفَرِدَا) (قَدْ زَارَ مَسْقَطَ فَاهْتَزَّتْ لَهُ طَرَبًا // أَكْرِمْ بِهِ مِنْ هُمَامٍ مَاجِدٍ وَفَدَا) (وَسَارَ نَحْوَ إِمَامِ المُسْلِمين لِكَي // يُمَثِّلَ الْغَرْبَ جَنْبَ الشَّرْقِ مُتَّحِدَا) (سَعَى فَوُفِّقَ فِي إِيْجَادِ رَابِطَةٍ // مَا بَيْنَ شَعْبِ عُمَانٍ والَّذِي بَعُدَا) (فَيَرْحَمُ اللهُ رُوْحَ القُطْبِ عُمْدَتُنَا -أَعْنِي- // ابْنَ يُوسُفَ فَخْرَ الدِّيْنِ شَمْسَ هُدَىَ]، ثم تم قصيدته بالإشارة إلى وشائج القربى التي تجمع بين الشرق والغرب قائلا: [(فَهَاكِهَا يَا أَبَا الْيَقْظَانِ رافلةً // تَزُفُّ للغَرْبِ شَوْقَ الشَّرْقِ مُتَّقِدَا)].

الأساليب البلاغية في القصيدة

أولًا: تفاعيل (بحر البسيط)، ودورها الدلالالي: لقد بنى القاضي عيسى الطائي على موسيقى عروض بحر البسيط (مسْتَفْعِلُنْ فاعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ فعِلُنْ - مسْتَفْعِلُنْ فعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ فعِلُنْ)، وهنا نلاحظ أن (العروضُ الأولى) (مخبونةُ) الثاني وجوبًا (فَعِلُنْ) وفي الشطر الثاني (الضربُ) (فعِلُنْ) (مخبونُ) الثاني وجوبًا مثلُ العروضِ الأولى وهو (الضربُ الأولُ) من هذا البحرِ، والجزءُ الثاني (مخبونُ الثاني) (فَعِلُنْ) بِحُسنٍ. وهذا التشكيل الإيقاعي يحمل تصوّرا دِلاليا، ويوحي بالتدفق الناعم للمشاعر والأحاسيس الوجدانية، وتهيء القارئ والسامع لاستقبال الدلالات ويعطي الشاعر القدرة على التداعي في الأوصاف.

ثانيًا: التراكيب اللغوية، ودورها البلاغي:

لقد تنوعت التراكيب البلاغية داخل القصيدة وحملت شحنات دلالية متدفقة تداولتها التفاعيل والإيقاعات. ومن أهمها: (التعريف) الموحي بالتعظيم والفخار في قوله وَحَّدْتُمُ (الشَّعْبَ) حتَّى صَارَ مُغْتَبِطًا // وَكَانَ مَنْ قَبْلُ فِي آرَائِه قِدَدَا) فَشَعْبُهَا ذَلِكَ الشَّعْبُ الَّذِي أَنِفَتْ // هِمَّاتِه أَنْ يَرَى فِي دِينِهِ أَوَدَا)، ثم يقوم (التنكير) بدور فاعل في تعميم الصفات وتدفق العاطفة واتساع رقعتها داخل جغرافية النص في أكثر من موضع، كان أهمها: (مستأسدصا)، (بحرًا خضمًا)، (يكتم شمسًا) (من بدورٍ) (منفردا)، ثم ينتقل بنا إلى خاصية (التقديم والتأخير) بغض النظر عن الضرورة العروضية أو التجوّز والوجوب النحوي؛ ليمثل الرغبة في وضع بقعة من الضوء على المعنى وإحالة القاريء إلى الدلالة ليستنبط منها الرؤى المتعددة وما تشع منه طاقتها التأويلية كما في قوله: [(بَعَثْتَ أَنْوَارَ (رُوِتِنْجِنْ) يَبُثُّ بِهَا // رُوْحَ الْحَيَاةِ فَصَارَتْ "كَالبُدُورِ هُدَىَ")]، ثم الاشتغال على (الإطناب بالتذييل) الذي استخدمه في البيت الأخير ليوقف عملية التداعي الموسيقي ويكبح حركة التفاعيل العروضية الهادرة فقال: [(فَهَاكِهَا يَا أَبَا الْيَقْظَانِ رافلةً // تَزُفُّ للغَرْبِ شَوْقَ الشَّرْقِ مُتَّقِدَا)].

ثالثًا: توظيف الأساليب الإنشائية المتعددة في بعث روح الثورة والنضال:

تسهم أساليب النداء (أبا اليقظان/يا ليته/فهاكها يا أبا اليقظان)، و(الأمر) في قوله (إلى الأمام/فاصدع/انبذ/دُم)، والتفضيل(أكرم به)، وتعاونها مع (الأساليب الخبرية) التي تشتغل على تقرير الحقائق، والتأكيد على اليقينيات. فضلا عما يعتمل داخل بِناها وتفاعلاتها من تأويلات وصراعات نفسية شديدة ونجاحه في نظمها مع (الصيغ البلاغية) في الكشف عن الروح الحماسية المرتبطة بالنزعة الغنائية من مطلع البيت الأول حتى نهاية التفعيلة الأخيرة، وصولا إلى القفل الموسيقي الذي أغلق به باب القصيدة في وجه العاطفة الوجدانية الهائجة التي تصاعدت حدّتها فكات أن تجرف تجرف كل شيء في وجهها، وتأخذ القاريء والسامع إلى مناطق ثرّة داخل النصّ وتشعل فيه فتيل الثورة على السكونية والثبوتية التي صارت طابعا كبلت به الكثير من شعوب شرقنا العربيّ تحت ضغوطات ضرورات الحياة، وأعوزتها مضائق ذات اليد إلى الركون قليلا إلى الدعة والمهادنة وحالت بينها وبين ما تشتهي من حرية ونضال في مجابهة قوى الشرّ والطغيان.