عودة العدوان الثلاثي

حاتم الطائي

◄ الاحتلال الغاشم يمارس حرب إبادة جماعية في قطاع غزة

◄ برابرة العصر الحديث ينفذون عمليات تطهير عرقي لشعب أعزل

◄ المجتمع الدولي أمام لحظة فارقة: إما منع العدوان أو إعلان موت الضمير

لا يزال قطاع غزة يئِن ويتوجَّع تحت نير القصف الهمجي والبربري لقوات الاحتلال الإسرائيلي، بينما العالم- وخاصة الغربي منه- صُمٌ بُكمٌ عُميٌ عمّا يقع من مذابح وحرب إبادة جماعية بحق أشقائنا الفلسطينيين في القطاع، في مفارقة ساخرة لموقفه تجاه الحرب في أوكرانيا، ليتأكد لنا ولكل ذي بصرٍ أنَّ هذا الغرب بقيادة الولايات المُتحدة ينتهج معايير مزدوجة، ولا يرى سوى بعينٍ واحدة، وليس هذا وحسب؛ بل إنها عينٌ مُصابة بأمراض خبيثة.

الآن ومنذ أسبوع تقريبًا، تتعرض نحو 365 كيلومترًا هي كل مساحة قطاع غزة- لأعنف موجات القصف العشوائي، بهدف محو القطاع بأكمله، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 2300 فلسطيني مدني، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وهو ما يعني أنَّ العدد اليومي للشهداء يقترب من 300 شهيد في اليوم الواحد! فما أعظمها من كارثة إنسانية، وما أشدها من مأساة لا مثيل لها في التاريخ، وما أخذله من صمتٍ مُخزٍ من قادة العالم الغربي، الذين لم يتوانوا عن إظهار الدعم والتأييد للاحتلال الإسرائيلي في حربه المُميتة على المدنيين العُزّل في غزة.. هؤلاء المُنافقون في الغرب تناسوا ما وصفوه بـ"جرائم الحرب" في أوكرانيا عندما زعموا أنَّ روسيا قطعت الكهرباء والمياه عن بعض البلدات الأوكرانية، لكن عندما يتعلق الأمر بغزة، يقولون إنِّهم يؤيدون "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".. لقد وُئد الضمير الإنساني ومات في ظل ازدواجية المعايير التي يحتكم لها الغرب، ومن على شاكلته، انتصر الشيطان الأعظم بجبروته وبطشه، خفت صوت الحق؛ بل بُحَّ تمامًا وكُمِّمَت الأفواه. هل كان أحد يتخيل أن تُقرر فرنسا عاصمة الثقافة الغربية ومهد التقدم الأوروبي، حظر التظاهرات المؤيدة للحق الفلسطيني، وتجريم من يؤيد المقاومة الفلسطينية على وسائل التواصل الاجتماعي؟ هل كان يتوقع أحدٌ أن تلتزم ألمانيا الصمت المُريب أمام مذابح الاحتلال الإسرائيلي وهي التي لطالما تشدقت بدعمها لحقوق الإنسان؟ ما موقف الولايات المتحدة مما يحدث في قطاع غزة من تجويع وقتل مع سبق الإصرار والترصد للمدنيين، بينما فرضت عقوبات لا مثيل لها في التاريخ على روسيا، فقط لأنَّها تخوض حربًا ضد الجيش الأوكراني؟!

عشرات ومئات الأسئلة الاستنكارية يمكن طرحها ردًا على ما يحدث من إجرام مُنظَّم في قطاع غزة، بينما يتواطأ الغرب بمنظماته أمام هذه الطامّة الكبرى، وينخرط إعلامه بانحياز سافر ليقف في صف الجلّاد، ويُعادي الضحية، من خلال الحرص على نشر الأكاذيب والافتراءات، ولننظُر لمحطات إعلامية كبرى مثل "بي بي سي" و"سي إن إن" و"فوكس نيوز" وغيرها بالعشرات، تخلو تمامًا عن معايير المهنية والموضوعية، لتسقط عنهم ورقة التوت الأخيرة، وتُعرّي مهنيتهم المزعومة والتي لطالما تشدقوا بها!

إنَّ ما يحدث في غزة الآن هو عدوان ثلاثي جديد، ففي عام 1956 وقع العدوان الثلاثي على مصر بقيادة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، والذي فشل في تحقيق أهدافه والتي كان على رأسها إسقاط حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، كما أخفقت الدول الاستعمارية في احتلال سيناء.

واليوم، نجد العدوان الإسرائيلي يجري تحت مرأى وسمع الولايات المتحدة التي أرسلت حاملة الطائرات الأكثر تطورًا "يو إس إس جيرالد فورد"، وبعثت بوزير دفاعها ليُشرف على خطط العدوان من غرفة عمليات جيش الاحتلال، ومن قبل بعثت واشنطن بوزير خارجيتها أنتوني بلينكن الذي أعلن على الملأ أنه يزور إسرائيل ليس فقط لأنه وزير خارجية أمريكا، بل لأنه يهودي! وبريطانيا التي نشرت بارجتين عسكريتين قبالة شواطئ دولة الاحتلال وأرسلت طائرات مُقاتلة، وهو ما يؤكد أنَّ خطة العدوان الثلاثي ستتضمن عمليات برية حشدت لها قوات الاحتلال عشرات الآلاف من الجنود، والدبابات والمدرعات والمجنزرات، إلى جانب هجمات غاشمة برًا وبحرًا.

لقد عاد برابرة القرن الحادي والعشرين، حاملين أسلحتهم وعتادهم لممارسة أشنع إبادة جماعية سيسجلها التاريخ الإنساني بأكمله، راغبين في تنفيذ عمليات تطهير عرقي لشعب أعزل محروم من أبسط متطلبات الحياة، ويعاني منذ أكثر من 7 عقود من الاضطهاد والتهجير والنهب واغتصاب الأراضي، والقتل والتجويع والحصار. عادت البربرية في أسوأ صورها، ربما في صورة لم يتخيلها حتى آكلي لحوم البشر قبل بزوغ فجر الحضارة الإنسانية.. اليوم غزة تئن وتستغيث من قتلة النساء والأطفال والشيوخ، الفلسطينيون يصرخون من بطش قوات تحارب بعقيدة القرون الوسطى، عقيدة الإبادة الجماعية، لتُعلن موت الضمير الإنساني، والانسياق وراء رغبة الإسرائيليين المتعطشة لدماء الفلسطينيين.

لا أعلم كيف لم يُندد الذين اعتادوا التنديد، ولم يشجب مُحبو الشجب، عندما نطق وزير الحرب الإسرائيلي كفرًا وقال واصفًا الفلسطينيين "إننا نحارب حيوانات"، وما أشنعه من قول بغيض، ما أحقره من تفكير بهيمي يُعشش في عقول وأدمغة الإسرائيليين؟!

إسرائيل ليست فقط مجرد أداة وظيفية لإبقاء العرب في دائرة الرجعية وبعيدًا عن أي تقدم حقيقي؛ بل إنها قاعدة للاستعمار الاستيطاني، تحمل في داخلها جينات الاستعمار الغابر والآيديولوجيا الصهيونية منذ القرن التاسع عشر الميلادي.

وكما أن أوروبا هي المسؤولة عن قتل اليهود بعنصريتها البغيضة من خلال حرقهم وقتلهم بدماء باردة على أيدي النازية، ثم تهجيرهم وطردهم من أوطانهم الأوروبية، وزرعهم بالقوة والإجبار في الأراضي العربية الفلسطينية على اعتبار أنهم ضحايا المحرقة النازية، فإنَّ الإسرائيليين الآن هم أنفسهم النازيون الجُدد، يقتلون الفلسطينيين بغاراتهم الجوية المُميتة، فما أشبه أفران الغاز بـ4 آلاف طن من المتفجرات سقطت في أيام معدودات على غزة؟ ليكون الفلسطينيون هم الضحايا هذه المرة، في حرب إبادة وحشية تؤكد مدى الخزي والخذلان الذي سيلحق بالعالم لقرون ممتدة.

ويبقى القول... إنَّ المجتمع الدولي، بمنظماته وجمعياته وسياسيه وقادته، مُدانٌ بأقصى عبارات الإدانة، وسيظل العار يُلاحقه أبد الدهر، على ما اقترفوه من صمتٍ رهيب إزاء ما تتعرض له غزة من عدوان أليم، ولن تغفر الشعوب العربية الحرة هذا الجُرم مهما طال الزمن.. أما الشعب الفلسطيني البطل المناضل الأشم صاحب الصولات والجولات في مواجهة المُحتل الغاصب، فلن يتراجع قيد أُنملة عن حقه وتراب وطنه، وقدس أقداسه، "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".