"مُخَلِّص" المجتمع

 

عائشة بنت أحمد بن سويدان البلوشية

في ذات ليلة خرج الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضي اللَّه عنه، مع خادمه -أسلم- ليتفقد أحوال المُسلمين في جوف الليل، وفي إحدى الطرق جلس ليستريح من التجوال إلى جانب أحد الجدران، فإذا به يسمع امرأة تقول: قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه- أي اخلطيه- بالماء، فقالت الابنة: يا أُمَّاه، وما علمتِ ما كان من عَزْمَة أمير المؤمنين اليوم؟!، قالت الأم: وما كان من عزمته؟، قالت: إنِّه أمر مناديًا فنادى: لا يُشَابُ اللبن بالماء، فقالت الأم: يا بُنيّتي، قومي إلى اللبن فامْذقيه بالماء فإنك في موضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر، فقالت الصبيّة: واللَّه ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، إن كان عمر لا يرانا، فربُّ أمير المؤمنين يرانا.

من منَّا لم تمر به هذه القصة؟ فقد درسناها ونحن على مقاعد الدراسة، وعلمونا أنَّ من يخاف الله يُجزى الثواب في الدنيا قبل الآخرة، وأن حرص تلك الفتاة على مراقبة الله تعالى الذي يطَّلع على السر والعلن قد زوجها بابن أمير المؤمنين حينها وبارك لها في ذريتها التي كان منها عمر ابن عبد العزيز المُلقب بخامس الخلفاء الراشدين.

جاء تقرير "ملخص المجتمع" الصادر عن جهاز الرقابة المالية والإدارية قبل أيام معدودات ليؤكد للمجتمع على الثوابت الراسخة في الضرب على الفساد بيد من حديد، ويقطع دابر الفاسدين، أخذ الجميع يتداول رؤوس الأقلام في مواقع التواصل بصدور مثلجة، لأن هناك جهة حكومية تذهب للبحث عن الفساد والخلل المالي والإداري بعين المدقق الواعي، أصبحنا نرى التطور الملموس لجهاز الرقابة المالية والإدارية في الدولة، وبعد أن تم تمكين موظفي الجهاز من الضبطية القضائية، خرجوا اليوم من قالب معدّي التقارير وحسب.

من خلال اطلاعي على ما جاء في الملخص، والمخالفات المذكورة ما بين رشوة واختلاس واستغلال منصب وغيرها، والمبالغ المستردة إلى الخزانة العامة للدولة من مرتكبي المخالفات، أطرقت متسائلة إذا كان الملخص قد أبرز خلاله كل هذا فكيف الحال بالتقرير كاملًا! وما الذي يدفع بالمخالف إلى ارتكاب المخالفة؟ وكيف لأنثى أن تنقاد إلى ارتكاب المخالفات؟ هل هي الحاجة المادية أم غياب الوازع الديني والأخلاقي؟ أم هو الجهل بعواقب الأمور القانونية؟ أم كل ذلك مجتمِعًا؟

هدر المال العام من خلال المخالفات المالية والإدارية يعد من أكبر الجرائم؛ فالمخالف يعتدي على القوانين المنصوص عليها، والصادرة بمراسيم سلطانية وقرارات وزارية، فيجيز لنفسه أو لغيره ويستبيح تجاوز القانون، الذي بدوره يتسبب في اغتصاب الأموال العامة للدولة عمدًا، أو الحصول على منفعة شخصية له أو لغيره، أعطيت لموظف جهاز الرقابة المالية والإدارية صفة الضبط القضائي في أن يحيله إلى الادعاء العام، ثم يحال إلى القضاء إذا ثبت عليه الاتهام، ورغم أن عمان ممثلة في جهازها الرقابي لم تصل إلى التمكين بإحالة الموظف المخالف إلى القضاء مباشرة كبقية دول مجلس التعاون الخليجي، إلّا أنه يقوم بعمله ممثلا في موظفيه بعمله على أكمل وجه جنبًا إلى جنب والادعاء العام العماني.

عندما راقبت أم عمارة أمها وذكرتها بأن لا تمذق الماء بالحليب، وأردفت بأن الله يرى كل شيء، بعثت برسالة واضحة أن الانسياق وراء النفس وخيم العاقبة، وأن عقاب الله أشد من عقاب عمر بن الخطاب، لذا فإن الأمانة تقتضي أن يكون المرء منا جهاز رقابة ذاتي على نفسه، ويُذكر بذلك غيره، وأن يسأل ويستشير الجهة القانونية في وحدته إذا شك في مُعاملة ما، أو إذا استشكل عليه أي صعب، وليصبح كجهاز الرقابة مخلصا (بضم الميم وتشديد اللام مع كسرها) للمجتمع من هذه المخالفات.

 

------------------------------------------------

توقيع:

"رَثَتِ الأمانةُ للخيانة إذ رأتْ // بالشمس موقفَ أحمد بنِ علِيِّ

منْ ذا يؤمِّلُ للأمانةِ بعده // لوَليِّ سُلطانٍ ثوابَ وَليِّ

بدرٌ ضَحَى للشمس يومًا كاملًا // فبكتْ هناك جَليَّةٌ لجِليِّ

من يَخْلُ من جزع لضَيْعة حُرْمةٍ // من مثله فالمجدُ غيرُ خَليِّ"

ابن الرومي.