حاتم الطائي
◄ عُمان نجحت في تجاوز مختلف الأزمات.. وحان وقت التعافي
◄ الاستغلال الأمثل للفوائض المالية يُساعد على نمو الاقتصاد الوطني
◄ زيادة البعثات الخارجية مطلب أساسي في ظل تحديات سوق العمل
على مدى العقود الماضية شهد الاقتصاد العالمي- وبالتبعية اقتصادنا الوطني- العديد من التحديات والأزمات التي تسببت في نتائج سلبية، لا سيما فيما يتعلق بالمالية العامة للدولة، ومعدلات نمو الاقتصاد، لكن المؤكد في كل الأزمات التي مرّت على اقتصادنا، أننا نجحنا في تجاوز التداعيات، حتى ولو كانت التأثيرات شديدة وعميقة، وهذا النجاح يُحسب إلى الإجراءات الحصيفة التي دأبت الحكومة على اتخاذها؛ سواء في صورة قرارات بترشيد الإنفاق، أو خُطط لتنمية الاقتصاد وتعزيز التنويع الاقتصادي ونمو القطاعات، لا سيما غير النفطية منها.
ومُنذ أن توالت أزمات الاقتصاد العالمي خلال السنوات العشرة الأخيرة تقريبًا، والتي تفاقمت مع جائحة "كورونا" والتراجعات الحادة في سعر برميل النفط، ازدادت الأعباء المالية وارتفع مؤشر الدين العام؛ إذ سعت الحكومة إلى تعويض النقص الواضح في الإيرادات من خلال الاقتراض، ولكن مع تعافي أسعار النفط وعودتها للارتفاع، تحسَّنت أوضاع المالية العامة، وبدأت الفوائض المالية تتحقق، خاصة وأن سعر البرميل وصل في آخر جلسة تداول إلى ما يزيد عن 95 دولارًا، بينما وُضعت الميزانية العامة للدولة للسنة المالية الجارية، عند مستوى 55 دولارًا للبرميل مع تسجيل عجز مالي، فيما يصل سعر التعادل إلى 68 دولارًا لتفادي أي عجز مالي، ومن ثمّ فإنَّ وصول سعر البرميل لمستواه الحالي، يعني مواصلة تحقيق الفوائض المالية التي بدأت -لأول مرة منذ 10 سنوات- في نهاية عام 2022.
التوقعات تُفيد بأن يواصل برميل النفط سلسلة الارتفاعات في الأسعار، ومن المؤمل أن يصل إلى مستوى 100 دولار خلال الفترة القريبة المقبلة، ربما حتى قبل بدء أكتوبر المقبل، لا سيما وأن تحالف "أوبك بلس" يواصل التأكيد على تبني سياسات تدعم وتُساند قاعدة العرض الطلب، من خلال التحكم في حجم المعروض النفطي، لدعم الأسعار. وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية وروسيا الاتحادية تقودان التوجه داخل "أوبك بلس" لدعم الأسعار والمُحافظة على مستويات مرتفعة، إلّا أنَّ مختلف الدول المُنتجة مُستفيدة من هذه القرارات، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، التي كانت في وقت سبق تُعارض بشدة سياسات "أوبك بلس"، لما له من تأثير سلبي على أسعار الطاقة داخل الولايات المتحدة، وما ينجم عنه من زيادة في معدلات التضخم التي يكافح الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأمريكي للسيطرة عليها وخفضها. لكن الشاهد الآن أنَّ الولايات المتحدة مُستفيدة من هذه الارتفاعات، في ظل ارتفاع مبيعاتها من النفط والغاز إلى الدول الأوروبية في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية وتوقف الغالبية العظمى من الإمدادات الروسية إلى دول الاتحاد الأوروبي. ومواصلة تسجيل ارتفاعات في أسعار النفط يعني بالنسبة لنا في عُمان تحقيق المزيد من الفوائض المالية.
ولقد انعسكت هذه الفوائض المالية المُتحققة بجلاء فيما يُسند من مناقصات لأعمال ومشاريع خدمية وتنموية، وكان آخرها ما أُعلن عنه قبل أيام من إسناد مشاريع جديدة بقيمة تقترب من نصف مليار ريال، وهي خطوة بنّاءة وتحرك إيجابي لدعم النمو الاقتصادي، نأمل أن يمضي في طريقه بالتوازي مع الإجراءات الأخرى التي تتخذها الحكومة لتحقيق التعافي الاقتصادي. ولا شك أن هذه التطورات الأخيرة تترجم الاستغلال الأمثل لما نجنيه من عائدات نفطية مرتفعة، إلى جانب الفوائد المُتحقَّقة من جهود التنويع الاقتصادي، والبرامج المختلفة لجذب الاستثمارات وتعزيز جاذبية السلطنة كوجهة استثمارية تنافسية في المنطقة.
وعلى الرغم من تقديرنا لحجم الدين العام والحاجة الماسّة لسداده في أقرب وقت ممكن، إلّا أننا لا يمكن أن نغفل عن أهمية توزيع هذه الفوائض المالية على أوجه إنفاق متعددة، سواء كان جزء منها يذهب لبند سداد القروض، أو تُخصص لمشاريع التنمية والتطوير. لذلك نرى أنه فيما يتعلق بمُخصصات التنمية والتطوير أن يتجه الإنفاق العام نحو مزيد من ضخ السيولة المالية في صورة مشاريع توفِّر بالدرجة الأولى فرص عمل لأبنائنا من الباحثين عن عمل، والتوسع في دعم برنامج القروض ببنك التنمية العماني، وكذلك القروض السكنية من بنك الإسكان، بما يُسهم في خلق حالة إيجابية من الحركة النشطة في الاقتصاد. نقول ذلك ونحن نرى من حولنا الكساد يُصيب قطاعات مختلفة في الدولة، فحركة المشاريع لم تعد كما كانت عليه سابقًا، والأنشطة التجارية تعاني من تراجع القوة الشرائية، وعدم إقبال المستهلكين على شراء المُنتجات، في ظل توجُّه الأسر نحو إعادة ترتيب أولوياتهم المالية، في ظل ارتفاع إنفاق الأسر على التعليم والصحة وتكاليف المعيشة، لا سيما مع زيادة أسعار الخدمات، والتضخم بشكل عام.
وبالتوازي مع الإنفاق على المشاريع التنموية بهدف تنشيط الاقتصاد وتوفير فرص العمل، نناشد الحكومة بزيادة مخصصات البعثات الخارجية للطلاب، فالتعليم هو أساس التقدُّم، ومن المُلاحظ أننا نجد أعداد البعثات الطلابية للخارج قد تراجعت خلال السنوات الماضية، ورغم تفهُّمنا لدواعي هذه التراجعات، إلّا أن الوضع الحالي يؤكد قدرتنا على زيادة هذه البعثات، والتي أسهمت طيلة عقود مضت في تخريج أفواج عديدة من الطلاب المُتخصصين في مجالات عمل ودراسة نوعية، استطاعوا من خلالها أن يخدموا وطنهم على أكمل وجه، ولنا أن نعلم أن نسبة كبيرة جدًا من المسؤولين في الحكومة؛ سواءً في الصفوف الأولى من وزراء ووكلاء وزارات، أو في الصفوف التالية من مديري عموم وموظفين، هم ممن حصلوا على بعثات خارجية؛ حيث درسوا أحدث العلوم في مجالات متنوعة، وعادوا إلى وطنهم متسلحين بالعلم المتقدم. ونقترح في هذا السياق، تخصيص 2000 بعثة ومنحة خارجية، على الأقل، وأن يُشارك القطاع الخاص فيها، لا سيما المؤسسات والشركات في قطاعات المصارف والنفط والغاز والاتصالات والخدمات، وهي مؤسسات تحقق أرباحًا جيدة، ويتعين عليها أداء دورها الاجتماعي المنوط بها. ولنا أن نعلم أن عدد البعثات والمنح الخارجية للعام الأكاديمي الحالي بلغ 624 بعثة ومنحة فقط أي بنسبة 3% من إجمالي المقاعد الدراسية المُتاحة هذا العام، وهذا رقم ضئيل للغاية، ونأمل أن يرتفع مُجددًا لكي يواكب أبناؤنا المتغيرات المعرفية والعلمية من حولهم.
ويبقى القول.. إنَّ التنمية الشاملة والمُستدامة التي ننشدها جميعًا لن تتحقق سوى بتضافر الجهود، ومواصلة السعي لتحقيق الطموحات، وأوضاعنا المالية الراهنة تسمح لنا بأن نرفع سقف هذه الطموحات، وأن ننظر إلى ما هو أبعد من مسألة الدين العام، فهذا أمره محسوم بفضل تصنيفنا الائتماني الجيد، وخطط حكومتنا الرشيدة، ولذا لا بديل عن تعزيز المشروعات التنموية وضخ السيولة في مختلف القطاعات، وتعزيز الاهتمام بالتعليم، وخاصة زيادة البعثات الخارجية، كي يتقدم وطننا نحو العُلا وينعم شعبنا بالازدهار والنماء.