عسكرة العالم

حاتم الطائي 

مساعي إشعال الحروب في العالم لا تتوقف.. والدول النامية المتضرر الأكبر

أفريقيا أحدث مسارح "العسكرة العالمية".. والثروات الطبيعية الهدف والغاية

دول الخليج تولي حرصًا شديدًا للحفاظ على السلم والاستقرار والتنمية

 

تجتاحُ العالم بين فترة وأخرى موجات من الحروب والعنف المُسلح، بتمويل من قوى دولية تُريد لمثل هذه الصراعات أن تستمر، نظرًا لأنها مصدر وقود لأهدافهم السيئة، ومن المؤسف أن نجد الأطراف المنخرطة في الصراعات تبتلع الطعم وراء الآخر بسهولة ويُسر، ولا ينأى من أهداب هذه المؤامرات العابرة للحدود، سوى القلة القليلة، التي تُدرك أنَّ السلام خيار استراتيجي، ونهج لا حياد عنه، يضمن التنمية واستدامتها، ويكفل الاستقرار المُجتمعي وديمومته.

وعلى مدى العامين الماضيين، سعت القوى التآمرية لإشعال نيران الحرب في أكثر من موقع؛ سواءً من خلال المُماحكات المُباشرة وغير المُباشرة بين الأطراف المتخاصمة، البعض منها لم يتجاوز مسألة التجييش وحشد العتاد، لكن البعض الآخر بلغ حد انفجار الأوضاع، واشتعال فتيل الحرب، التي تأكل الأخضر واليابس. ولا يُمكن أن نتجاهل دور الحكومات والمنظمات الدولية وتلك التي ترفع شعارات برّاقة مثل "حفظ الأمن ودعم استقرار الدول" وأيضًا الدعوات المُثيرة للريبة مثل "دعم الديمقراطية" و"التحول الديمقراطي"، وغيرها من الشعارات التي يسيل لها لُعاب البعض، ويتحمس تجاهها، ربما من دوافع ونوايا طيبة، لكن من المُؤكد أنَّه دون وعي حقيقي أو حكمة عند اتخاذ القرارات.

عسكرةُ العالم لم تعد اتجاهًا يصعد ويهبط حسب الظروف؛ بل صارت نهجًا متواصلًا، يُنفذّه أصحاب الأجندات الدولية، وصُناع الحروب، ومصانع الأسلحة الكبرى في الغرب، علاوة على الصراع الأزلي على الموارد الطبيعية والثروات ومُقدرات الدول، فضلًا عن أهداف أخرى غير مُباشرة مثل توريط الدول الصاعدة والنامية اقتصاديًا؛ بل والآن نشاهد توريطاً فعلياً لدول عظمى في صراعات وحروب دامية، وما الحرب في أوكرانيا سوى إقحام مُتعمّد من الغرب لروسيا في المستنقع الأوكراني، بهدف استنزاف القوى العسكرية لروسيا، وإضعاف موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى جانب ما أتاحته هذه الحرب من فرصة ذهبية للولايات المتحدة وأوروبا، لتجميد ومصادرة مليارات الدولارات المملوكة للحكومة الروسية، علاوة على فرض عقوبات تسببت في تكبيل الاقتصاد الروسي والإضرار بالعملة الروسية "الروبل"، وغيرها الكثير من التداعيات المُباشرة وغير المباشرة على اقتصاد روسيا. وإضافة إلى ما سبق، عززت الدول المستفيدة من الحرب، من القدرة التصنيعية لمصانع الأسلحة، فازدادت المبيعات إلى أوكرانيا، وتوالت صفقات التسليح المليارية تحت حُجة "الدعم العسكري لأوكرانيا". وعلى الرغم من استمرار الحرب لأكثر من عام ونصف العام، إلّا أنَّ وتيرتها لم تهدأ؛ بل إنها تستعر كل يوم نتيجة لحالة العسكرة التي تمر بها تلك المنطقة، خصوصًا بعد دخول حلف شمال الأطلسي "ناتو" على خط العسكرة، وسعيه لضم دول أوروبية تحت مظلته، وقد انضمت مُؤخرًا فنلندا إلى الحلف، وتسعى السويد لتكون أحدث دولة تنضم إلى هذا الحلف العسكري.

وبؤر العسكرة في العالم، مُتعددة، ومنها بحر الصين الجنوبي؛ حيث يتواجد الأسطول الأمريكي في تلك البقعة التي تشهد توترات عسكرية بين الفينة والأخرى، خاصة وأنَّ الولايات المتحدة تزعم أن تواجدها هناك يعكس "التزامها" بدعم أمن الملاحة في المحيطين الهادئ والهندي، في حين أن الصين ترى أن مثل هذا التواجد غير المُبرر يتسبب في تأجيج الأوضاع، ويُهدد الأمن القومي للصين. وتصل التوترات في هذه المنطقة إلى حد يقترب من التهديد باندلاع معركة عسكرية، لا سيما في حالات اتهام طرف لآخر بارتكاب انتهاكات، مثل اقتراب السفن الحربية الأمريكية من المياه الإقليمية الخالصة للصين، أو اعتراض الولايات المُتحدة دون وجه حق لما تنفذه الصين من مناورات عسكرية، لا سيما في مضيق تايوان، والتي تمثل جزءًا من الصين الواحدة.

وأحدث مظاهر العسكرة العالمية، تأتي من القارة السمراء؛ حيث يبدو أنَّ الأوضاع في منطقة وسط أفريقيا، تتخذ منحى متزايدًا نحو مواجهات عسكرية محتملة، فبعد التطورات الأخيرة التي شهدتها مالي وبوركينا فاسو فيما يتعلق بإنهاء عمل القوات الفرنسية، وخروجها نهائيًا من هذين البلدين في أسوأ صفعة سياسية تُوجه للمُستعمر القديم، نجد اليوم دولة النيجر في مُواجهة مع الغرب بعد قيام الجيش بعزل الرئيس، وتولي مجلس عسكري الحكم، وهو ما دفع بسيناريو التجييش والحشد العسكري والحشد المُضاد، ليعتلي واجهة الأحداث. وأولى إشارات عسكرة الوضع في وسط وغرب أفريقيا التهديد بتدخل عسكري مسلح لإعادة الرئيس المعزول، في خطوة تؤكد النية المُبيتة لإشعال الوضع، في الدول التي تمردت على المُستعمر القديم، وسعت إلى إعادة الأمور إلى نصابها الوطني، بعيدًا عن أية تدخلات أو إملاءات أو وصاية أجنبية، بعدما غرقت فيها طيلة عقود مضت، تحت وطأة الاستعمار المُباشر، أو غير المباشر.

الأمر لا يختلف كثيرًا في مناطق عدة حول العالم، ومنها منطقة الخليج العربي، فلطالما سعت القوى الدولية لإشعال نيران الحرب الإقليمية، وقد نجحت سابقًا في حرب الخليج الأولى والثانية، وبلغ نهج عسكرة الخليج العربي ذروته مع الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق، وما لبث أن خرج المستعمر من الأراضي العراقية، حتى سعى إلى بسط نفوذه في المنطقة، ومحاولة توريط بعض دولها في حروب عبثية، لكن يُحسب لدول الخليج جميعها حرصها على نهج السلام ونجاحها اللافت في الحفاظ على السلم والاستقرار، على الرغم من محاولات الوقيعة والتحريض وتقليب الأوضاع ونثر بذور الفتنة بين الحين والآخر.

اليوم ينعم الخليج العربي بالسلام والاستقرار، خاصة بعد التقارب السعودي الإيراني وعودة العلاقات الدبلوماسية بين أكبر دولتين في المنطقة، وتلاشت تمامًا مخاطر الحرب التي وصلت في فترات سابقة لمستويات مُرتفعة هددت بنشوب حرب إقليمية، غير أنَّ المواقف والأحداث برهنت على الحكمة والاتزان السياسي لقادة دول المنطقة جميعًا. ولا شك أنَّ الغرب غير راضٍ عن استئناف العلاقات السعودية الإيرانية، خاصة وأن الدولتين الجارتين أعلنتا الحرص على تعزيز العلاقات، وخاصة في المجالات الاقتصادية، بما يُحقق النفع العام لشعوب المنطقة. ولذلك يتعين على دول المنطقة العمل بكل قوة من أجل الحفاظ على الاتفاق السعودي الإيراني، فثمّة أطراف دولية، وفي المُقدمة إسرائيل واليمين المُتطرف في الدول الغربية، يسعى لتدمير هذا الاتفاق، وبث رياح الخلاف والنزاع في المنطقة. وما يؤكد هذا الطرح، أنَّ الغرب لا تعنيه سوى مصالحه، من خلال التحريض بين الدول، ففي الوقت الذي يُبدي فيه عدم رضاه عن التوافق السعودي الإيراني، نجده يوافق على الإفراج عن 6 مليارات دولار مُقابل إطلاق سراح 5 أمريكيين في إيران، وهذه المفارقة الصارخة تُبرهن على المعايير المزدوجة لهذا الغرب.

ولا ريب أنَّ أولى أولويات دول الخليج العربي يجب أن تتمثل في الحفاظ على المكتسبات التي تحققت على مدى عقود مضت، وما تشهده من تنمية شاملة ومستدامة، واستراتيجيات طموحة لتنويع الاقتصاد وجذب المزيد من الاستثمارات، والارتقاء بمستوى المعيشة لشعوبها، ولذلك لا يُمكن تصوُّر أي توتر في علاقات الجوار، وأن تفادي أي حرب مُدمّرة يحتل المرتبة الأولى لدى القادة الحكماء في المنطقة، وهو ما أثبتته الأحداث المتتالية.

ويبقى القول.. إنَّ التحركات الخبيثة في أنحاء العالم لفرض العسكرة الدولية، لا يجب أن تُفلح، ولا ينبغي لعقلاء هذا العالم وحكمائه، أن يسمحوا لصقور الحكومات الغربية بالتحكُّم في مُقدرات الشعوب؛ الأمر الذي يفرض على كل الدول الساعية للسلام، أن تُعزّز الوعي بأهمية هذا السلام، باعتباره حتمية استراتيجية، وليس مجرد اختيار، وأن تتواصل المساعي لترسيخ الأمن والاستقرار والحفاظ على السلم العالمي، حتى تنعم البشرية بالرخاء والازدهار، ويتبدد شبح الحرب العالمية الثالثة دون رجعة.