البيولوجي قاتلًا.. هل تحسم الأسلحة الكميائية والبيولوجية حرب أوكرانيا؟

 

 

د. رفعت سيد أحمد

مع مرور الأيام الدامية في الحرب الروسية- الأوكرانية ومع الإيقاع المتصاعد لصوت المدافع والقنابل المتساقطة على طرفي الصراع، تتزايد التساؤلات حول لحظة الحسم الكبرى وموعدها، وهل ستأتي نتيجة هذه المواجهات المحدودة وحصار ثم سقوط المدن وبخاصة العاصمة كييف؟ أم أن لها أدواتها التدميرية الأخرى؟

ومع استبعاد استخدام الطرف الأقوى في الحرب- روسيا- للأسلحة النووية لمخاطرها عليها هي قبل الغرب (كما أشرنا في مقال سابق)، فهل ستتخذ الأسلحة الكميائية والبيولوجية بديلًا للنووي؟ أم أن الطرف الأوكراني سيبدأ هو باستخدامه بدعم وإيعاز من الغرب لخلق توازن رعب جديد مع موسكو؟

أسئلة أثيرت بقوة مجددًا بعد الجلسة الصاخبة لمجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي والتي قدم فيها المندوب الروسي ما أسماه بـ"الوثائق والأدلة عن وجود 30 موقعًا للأسلحة البيولوجية"، أقامتها واشنطن على الأراضي الأوكرانية على الحدود مع روسيا بهدف الاستخدام ضد روسيا والصين مستقبلا، وأن روسيا دمرت بعضها.

وتضمنت الجلسة أيضاً تسليم المندوب الروسي ما أسماه وثائق وأدلة تمويل البنتاجون الرسمي لبرنامج أسلحة بيولوجية واضحة في أوكرانيا وأسماء الأشخاص والشركات الأمريكية المتخصصة المشتركة في هذا البرنامج. إضافة لإعلان مفاجأة أخرى من مندوب روسيا بأماكن المختبرات الأمريكية التي تعمل على تصنيع واختبار الأسلحة البيولوجية في 36 دولة حول العالم (بزيادة 12 دولة عن الجلسة السابقة). في المقابل نفت أمريكا وفرنسا وبريطانيا هذه الاتهامات الروسية ووصفتها بالكاذبة.

لكن بعد الاتهامات وتكذيبها، تبقى دلالات ومعانٍ مهمة قد نجد ترجمة كارثية لها على الأرض الأوكرانية خلال الأيام المقبلة لحسم الحرب باستخدام تلك الأسلحة من أحد طرفي الصراع، وربما من الطرفين معًا، وربما أيضا من المرتزقة الأجانب الذين بدأوا يدخلون على خط الحرب ويتحالفون مع الجماعات العنصرية النازية في أوكرانيا وهؤلاء جميعاً بنمط ثقافتهم وتشددهم وارد جدا أن يستخدموا بعض الأسلحة المحرمة دوليا وفي مقدمتها الأسلحة الكيميائية والبيولوجية كما جرى من بعضها في سوريا إبان "الربيع العربي" المزيف!!

ولنقترب من هذا الموضوع أكثر بمناقشة الآتي:

أولًا: ما الذي تقوله المعاهدة الدولية المحرمة لاستخدام الأسلحة البيولوجية؟

المعاهدة كانت ثمرة جهود مطولة للمجتمع الدولي لصنع أداة جديدة تكون مكملة لبرتوكول جنيف للعام 1925. وهذا البرتوكول الموقع في جنيف جاء بعد الحرب العالمية الأولى لمنع استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، لكنه لم يمنع تطويرها وحيازتها. فما كان من دول العالم إلا أن سعت لتوقيع معاهدة جديدة قدمت بريطانيا مسودتها لمنع تطوير، وإنتاج وتخزين الأسلحة البكتيرية (البيولوجية) والأسلحة السمية وتدميرها وكانت أول اتفاقية متعددة الأطراف لمنع إنتاج صنف كامل من الأسلحة. وأتيحت للتوقيع في 10 أبريل 1972، وأصبحت نافذة في 26 مارس 1975، عندما صدقت على المعاهدة 22 حكومة. والمعاهدة حاليًا تلزم 165 دولة موقعة بمنع تطوير، وإنتاج، وتخزين الأسلحة البيولوجية والسامة. مع ذلك، فإن غياب نظام رسمي للتحقق من الالتزام بالمعاهدة قد حد من فاعليتها. وبدءًا من أكتوبر 2011، وقع على المعاهدة 12 دولة، لكنها لم تصدق عليها.

أما عن أبرز بنود هذه المعاهدة والتي تتحجج بها أطراف الحرب في أوكرانيا ومع ذلك يخالفونها قولا وفعلا، فهي: المادة الأولى: تحت أي ظرف، لا يمكن امتلاك الأسلحة البيولوجية. المادة الثانية: يجب تدمير الأسلحة البيولوجية والمصادر المرتبطة بها، أو تحويل استخدامها للاستخدام السلمي. المادة الثالثة: لا تنقل، أو تساعد بأي طريقة، أو تشجع أو تحث أي طرف آخر على امتلاك الأسلحة البيولوجية. المادة الرابعة: اتخاذ أي إجراءات على النطاق الوطني لإنفاذ المعاهدة محليًا. المادة الخامسة: استشارة ثنائية أو جماعية لحل أي مشكلة تتعلق بإنفاذ المعاهدة. المادة السادسة: الطلب من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التحقيق في أي خرق للمعاهدة، والانصياع لقراراته العاقبة. المادة السابعة: فعل كل ما سبق بطريقة تشجع الاستخدام السلمي لعلم الأحياء الدقيقة والتقنية الحيوية.

ثانيًا: رغم وضوح بنود المعاهدة وشدة تحريمها لصناعة واستخدام ونقل وتخزين تلك الأسلحة (البيولوجية والكميائية)، إلا أن أطراف الصراع في الحرب العالمية الدائرة رحاها في أوكرانيا يتهمون بعضهم البعض بالتصنيع والتخزين وغدا سيتهمون بعضهم البعض بالاستخدام. لقد رأينا المندوب الروسي في بداية المقال يتهم أمريكا وحلف الناتو ببناء 30 مختبرا لتلك الأسلحة وبأنهم قد يستخدمون ما لم يتم اكتشافه أو تدميره من المختبرات والأسلحة في الأيام القادمة من الحرب ثم يتهمون روسيا بأنها هي التي بادرت بالاستخدام. بالمقابل قالت جين ساكي المتحدثة باسم البيت الأبيض، ردًا على المندوب الروسي في مجلس الأمن إن روسيا هي صاحبة التاريخ في استخدام الأسلحة البيولوجية وليس نحن، موضحة أنَّ روسيا تتهم الولايات المتحدة الأمريكية بتصنيع أسلحة بيولوجية كنوع من التضليل. وأضافت المتحدثة باسم البيت الأبيض، خلال مؤتمر صحفي، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخطأ في تقدير حجم الحرب، مشيرة إلى أنَّ روسيا تمتلك ترسانة أسلحة بيولوجية، واستخدمت بعضها ضد معارضين في أراضي الناتو. وأشارت المتحدثة باسم البيت الأبيض، إلى أنَّ أوكرانيا ليس لديها برنامج أسلحة بيولوجية بل روسيا هي التي لديها مثل هذه الأسلحة.

ثالثًا: في مواجهة النفي الأمريكي لتورطهم في تصنيع وبناء مختبرات كيميائية وبيولوجية في أوكرانيا منذ سنوات وأن بعضها قد يستخدم هذه الأيام، كشفت دراسات محايدة أنَّ هناك بالفعل مختبرات في أوكرانيا وأنها جاءت ضمن برنامج «الحد من التهديدات البيولوجية» التابع لوزارة الخارجية الأمريكية؛ وهي مبادرة تتعاون فيها الولايات المتحدة مع دول أخرى من أجل «مواجهة انتشار أوبئة معدية بالغة الخطورة». وتتجسد أولوية البرنامج الأمريكي لدى أوكرانيا في «تأمين البلاد من العوامل التي تشكل مصدر قلق أمني، وضمان استباقية الكشف عن الأوبئة قبل تفشيها والإبلاغ عنها وأن الولايات المتحدة بالغت في توسيع نطاق برنامجها البيولوجي في أوكرانيا. وفي 2019 فقط، أقامت مختبرين في مدينتي كييف وأوديسا، وهما المدينتان اللتان بادرت روسيا بقصفهما مع بداية عملياتها العسكرية في أوكرانيا، إضافة إلى مختبرات أمريكية أخرى في مدن وضواحي فينيتسا، ولفيف، وخيرسون، وتيرنوبيل، ومناطق أخرى محاذية لحدود شبه جزيرة القرم.

وإضافة إلى خرائط أخرى تربط بين القصف الروسي ومواقع مختبرات بيولوجية أمريكية في أوكرانيا، خرج التقليل من اتهامات روسيا للولايات المتحدة عن طور «نظرية المؤامرة»، أو «معلومات مواقع التواصل الاجتماعي»، حين تبيَّن قلق موسكو وكذلك بكين من الممارسات الأمريكية في أوكرانيا وفي دول أخرى محيطة بروسيا؛ فخلال العام الماضي 2021، حذر أمين عام مجلس الأمن الفيدرالي الروسي نيكولاي بتروشوف من مؤشرات واضحة على تطوير الولايات المتحدة أسلحة بيولوجية في مختبرات على حدود أوكرانيا مع بلاده. وأضاف المسؤول الأمني الروسي، حسب ما نقلته عنه في حينه صحيفة «روسيا بيوند» الرسمية أن «واشنطن تطور في مختبراتها بأوكرانيا أوبئة خطيرة يمكن استغلالها لاحقاً في أغراض عسكرية أو سياسية ضد روسيا». وفي تصريحات مناظرة في يوليو العام ذاته، قال بتروشوف: «تعكف الولايات المتحدة على تهديد روسيا والصين ببناء مختبرات بيولوجية، ولا ندري ما يجري بين حوائط تلك المختبرات؛ لكن المختبرات تذكرنا بنشاط الولايات المتحدة العسكري البيولوجي في مختبرات مناظرة بولاية مريلاند على مدار عشرات السنين».

وفي أكتوبر الماضي (2021)، دعت روسيا والصين- في بيان مشترك- الأمم المتحدة إلى «فرض رقابة على عمليات تطوير محتملة لأسلحة بيولوجية أمريكية؛ وتضمن نص البيان أنه «في ضوء التقدم السريع في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وزيادة قدرات استغلالها، تتزايد مخاطر اعتماد الولايات المتحدة على مواد بيولوجية وتحويلها إلى سلاح فتَّاك».

وسعت روسيا والصين من خلال البيان وغيره إلى لفت الانتباه لأنشطة الولايات المتحدة العسكرية البيولوجية وحلفائها، لا سيما في ظل معلومات تؤكد نشر واشنطن ما يربو على 200 مختبر بيولوجي خارج أراضيها، وأن تلك المختبرات تعمل في صمت تام، وبعيداً عن أية شفافية، فضلاً عن إثارتها مخاوف وعلامات استفهام لدى المجتمع الدولي حول موقف معاهدة BWC لمنع تطوير وإنتاج وتخزين الأسلحة البيولوجية من بيان روسيا والصين أمام الأمم المتحدة.

رابعًا: من وجهة نظر الخبراء المتخصصين في الحرب البيولوجية والكميائية ومنهم رئيس أركان الحرب الكيميائية السابق في الجيش المصري اللواء د. محمد الشهاوي ومن خلال مقابلة على قناة الميادين، تحدث عن مخاوف روسيا من قيام عناصر من المتطرفين الأوكرانيين بالسيطرة على هذه الأسلحة واستخدامها في وجه الجيش الروسي. ولفت إلى أنَّ خطورة هذه الأسلحة تكمن في إمكانية تطويرها في الاتجاه الجيني؛ إذ يمكن أن تصيب أعراقًا معينة دون أخرى، كما أشار إلى أنّ من الواضح جدًا وجود أنشطة خطرة تقوم بها الولايات المتحدة وأوكرانيا في هذه المختبرات، طارحًا تساؤلًا مهمًا: إنّ تطوير الأسلحة البيولوجية في المسار السلمي يمكن أن يتم في مصانع معروفة، فلماذا يعمل الجانبان الأمريكي والأوكراني على تطويرها في مختبرات سرية؟

من المعروف أنَّ هذه المختبرات لها غرض مزدوج، إذ يتم تمويلها من قبل الغرب، وتتم أنشطتها في مواقع سرية للغاية. وتنفق الولايات المتحدة وحلف الناتو مبالغ ضخمة لصيانة المختبرات. على سبيل المثال، أنفقت في أوكرانيا 200 مليون دولار (عدد المختبرات البيولوجية في أوكرانيا يزيد على 30). وفي جورجيا، ينفق أكثر من 150 مليون دولار. وفي كازاخستان، أكثر من 130 مليون دولار. وفي أرمينيا، هناك 12 مختبراً بيولوجياً.

خلاصة الأمر في هذه القضية سؤال أساسي وإستراتيجي وهو: ليس من (يملك)؛ بل من سيبدأ بـ"الاستخدام" وعلى أي نطاق؟ لأنه لاجدال في أن ثمّة ترسانة للأسلحة البيولوجية والكميائية لدي روسيا وهي ذاتها- روسيا- لا تنفي ذلك؛ بل وتؤكده. وبالمقابل ثمة مختبرات ومصانع وترسانة بيولوجية في أوكرانيا بدعم ورعاية أمريكية وأوربية ومن سنوات طوال. الامتلاك إذن مؤكد وحتي لو نفي أطراف الصراع ذلك. ولكن قرار "الاستخدام" وموعده هو المثير والمقلق عالميًا، ولأنه كذلك فربما يكون هو الورقة الأخيرة في هذه الحرب، وبعدها قد يجلس طرفا الصراع للتفاوض وعقد معاهدة جديدة تضمن مصالح روسيا والغرب، بعد أن يكون "القاتل البيولوجي الصامت" قد أجبر الجميع على ذلك.

والله أعلم.