"أبو الهول العُمَانيّ" يُردِّد أناشيد الشعراء فوق تلال الحمراء

 

ناصر أبو عون

Nasser@alroya.net

عند وصولنا كانت ولاية الحمراء كعادتها تسترخي هانئة في سرير من ورد الجبل الأخضر، وفي حضن نزوى تبيت عابدةً في محاريب الله، وعند مطلع الفجر تطلّ بوجهها الصبوح المستضيء برذاذ الندى على بُهلاء، وتجيل النظر بتأمّلٍ من عَلٍ إلى واحات الرستاق الخضراء، وتستحضر ذكر الله في الأصيل المتسلل من بين عراجين نخيل عبري.

حطت القافلة رحالها أمام بيت الصفا في الحارة القديمة؛ كانت في استقبالنا شيخة العبريّة امرأة من الزمن الجميل؛ توزّع الكرم على العابرين من دِلاء نَسبها الشريف، وتقري الضيوف القادمين من دالية الجبل الأخضر لآليءَ من نور، وتطبخ الحُبّ في جحال من حبور، فرشت لنا بساط الترحاب، وما بين الفينة والأخرى تُلّحُ في أخذ المزيد.

صعدنا من "قرية المركاض" بالقرب من "كهف الهوته" إلى بركة الشرف بالجبل الشرقيّ جغرافيته مستديرة على شكل قوس مُسنّن الحواف قابع على ارتفاع 2000 متر فوق سطح البحر كانت تسبح استراحة الهوتة ذات الأبنية المُجصصة بالحجر الأبنوسي، والمزيّنة بالصاروج العماني في بحيرة من ضوء، وتترجّل كل صباح تحت صخرة عظيمة تأخذ وضعية "أبو الهول" بجسم أسد ورأس إنسان لتمشّط جدائلها ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾..

هنا اجتمع لفيف من عشّاق عُمان، القابضين على جمر الشعر، والرافعين راية الخليل الفراهيدي في ضيافة الشيخ الشاعر سالم بن محمد العبري، الذي مدّ حصير الترحاب إلى آخر مدى، قدّمه المذيع المخضرم والشاعر الحداثي بدر الشيبانيّ، فطفق يوزّع رياحين الوحدة من أسارير روحه الذائبة في كؤوس العشق القوميّ في حركة مكوكية لا تهدأ من حدود المغرب التوَّاق إلى الأندلس اليتيم، قاصا ذكرياته المعجونة بحليب الشعر، ومنكّهة بعطر التاريخ المجيد، طوافًا ما بين مصر المحروسة قلب العروبة وصولا إلى الشام الأبيّ الصامدِ أمام جحافل التتار الجدد، والطابور الخامس الذي ينخر في عظامِ المروءة. يقف العبريّ على قدم الكرم وساق المحبة، فتتراقص القصائد على ألسنة النار تحت خيمةِ العيدِ الوطني الحادي والخمسين وترانيم فُرسان القصيد، فصدحت طيور القطا المتوّج تردّد رجع الصدى وتطرب لها أشجار البوت، وتسرح بمعانياها تحت أغصان النمت، وتسطع صورها على أوراق الطلح والعتم والصخبر في الليل الدامس حول خيمة الشعر في استراحة الهوتة.

إلى هذه الأمسية الشعرية جاء السفير السوريّ لدى سلطنة عُمان الدكتور بسّام الخطيب عاشق التاريخ العُماني، متحدثا بلغة عربية صافية رقراقة، وشخصية متوازنة تقف على رؤوس الكلمات تمزج بين الخلفية التاريخية الرصينة والواقعية السياسية المتبصِّرة، تشدّ قوس العروبة، وتطلق سهام الأمل في عودة التاريخ المجيد، اقتضب فأثرى، وأوجز فأغنى، وسرد التاريخ فأوصى، ونصح فأقنى. فالرجل شهادة من لحم ودم لا ينزل ضيفا، ولا يرتقي منصةً في محفل أو منزلٍ إلا وأشاد فيه بمواقف سلطنة عُمان السياسية، وعرّج على فصلٍ من فصول تاريخها المجيد في جبين الزمان، وأشار إلى وجودها الثقافي والحضاريّ في كل بقعة من بقاع البسيطة، يفخر بصداقته للشيخ سالم بن محمد العبريّ ويمتِّن معارفه وصلاته في كل حدبٍ وصوب من أرض عُمان الطيّبة.

فلما دخلنا خيمة الشيخ الشاعر هلال السيابي؛ حضرَ الباروديّ فألقى السمع وهو شهيد، وخلع أمير الشعراء بُردته، فَأَلْقها عَلَىٰ وَجْهِ الشِّعر فأضاء المكان، واستند شاعر النيل إلى جذع سُمرةٍ عمانيّة في ركنٍ غير بعيد يعبُّ من دلاء السيابيّ ويصيخ السمع لأحاديث الجوى؛ فلمّا شرع السيابيّ يشدو مطولاته الوطنيّة، ويرشُّ رصانته عطرا على أعطافنا، نبت الورد في أكمامنا، وأسال الحزن من مآقينا، حزنًا على ماضٍ قد تولّى فمات الدمع في مآقينا. يقف السيابيّ شامخا يسمو بالقصيدة العمودية إلى مراتب البلاغة في أدب العصر الجاهليّ، وأنوار البيان في العصر الأمويّ، وحداثوية العصر العباسيّ، فجاءت قصيدته رقراقة المعاني، وشفافة الصور، تمتح تراكيبها من معين عربيّ اللغة لا ينضب، وحيضانه ثائرة تتفجّر شاعريةً ممزوجة بشعور صادق متدفق لا يهدأ ولا يستكين، وشعرٍ مطبوع غير مصنوع، وسبكٍ متين وصدق رصين، وجبل مكين لا تهزه ريح الناثرين، من السحرة والمشعوذين الذين دخلوا محراب الشعر العربيّ وعشّشوا فوق منابر الثقافة، وباضوا "قصيدة نثر" على حجر الأدب فكانوا كحالِ المُنْبَتّ لا أرضا قطع ولا ظهْرا أبقى.

فلما جلس الدكتور نائل حنون عميد الآداب وعلم الآثار العراقيّ المتخصص في اللغات القديمة إلى المنصّة أمسك بالتاريخ في يمينه، واستنطق سِيَر الأولين على لسانه، وحمل مصباح الشعر على زنده الأيسر، وأبحر بنا في قارب الذكريات عبر ألفٍ وخمسمائةٍ عام قبل الميلاد وتلى علينا أبياتا باللغة الآكادية القديمة مشطّرة وموزونة، من كتابه الصادر هذا العام تحت عنوان: أسطورة الخليقة البابلية، النص المسماري الشعري وهو "عبارة عن قصيدة شعرية مؤلفة من أبيات شعرية كلٌّ منها بشطرين على غرار الشعر العمودي العربي قبل 1500 سنة ق.م، وقد وُجدت منقوشة على سبعة ألواح طينية بعدد يتراوح ما بين 138 إلى 166 بيتا على اللوح الواحد".

وسائلةٍ عراقي؟ أم عُماني؟ / أضعتَ عليَّ بوصلةَ المكانِ/ فقلتُ لها: سلي روحي ونبضي/ يُجبْك القلبُ في أحلى بيانِ بهذا النص ذبح الشاعر عبد الرزاق الربيعي خِراف الشك التي كانت ترعى النجوم في طفولة ابنته دجلة منذ ثماني حجج قضاهن في حِجرِ عزّة الحارثيّة، التي لا تغادر طرف لسانه، واستوطنت جسده ما بين الجلد والعظم ومازال يحرث أرض السُّمر ويبذر حبّات الشعر ويستمطر غيم الحُبّ خمسة وعشرين حجّة ويطوي دشداشته يجمع فيها ثمار عناق حضارتين. وغادر منصة الشعر ونارُ تسعّرُ في الضلوعِ وخلفه/ النيرانُ تأكلُ في الظلامِ وتشربُ/ وتسدِّد الطعناتِ للظهرِ/ الذي لم تحنهِ سنواتُ عمرٍ خلّبُ/ وأمامه الأيّامُ أشجارٌ ستغدو/ للظى حطبا، فأين المهربُ؟، وجلس الشاعر المهندس وسام العاني على نيران الربيعي المستعرة، فاشتعل القلب شعرًا، وحطّت النجوم على كتف القصيدة تطالب بكفلٍ من شِعر في عشق عُمان بعد أن استفتح رائعته بقمشة من بلاغة الوصف لو وقعت فوق الصحاري القاحلة لاستنبتت الخضار في قيظها، وأرسلت نسائم الشوق عطرا في ليلها الموحش؛ فهذه الشمسُ ألقتْ ضوءَها أثوابا/ والبحرُ أودعَكِ الجمالَ وغابا/ ورَسا على عينيكِ طبعُ وسامةٍ/ يكفي لتشتعلَ الجبالُ شبابا. ولأن الجمهور كان شوّاقًا لغزليات تلامس شغاف القلوب الظامئة، وتبلل الشفاه المتشققة، وتطفيء نيران الحزنِ الواصبة، وتجفف الدموع في المقل السائحة جاء المهندس الشاعر سعيد الصقلاوي رائد قصيدة التفعيلة في سلطنة عُمان ليأخذ الجميع في تطواف حول كعبة القصيدة، ساعيا ما بين مروة الصور الشعرية المركبة والمستحدثة، وصفا التفاعيل الصافية الجارية في فلج اللغة مرتكزًا على محور الانزياح الدلالي، والتركيبي والإضافي واضعا حدودا فاصلة بين الشعر والسرد ساحبا الاستعارة التنافرية إلى محراب قصيدته انتظار مستفتحا عادَ القطارُ/ ولمْ تعودي/ لكنْ/ وجودُكِ/ في وجودي.

وكان آخر الغيث قطرة سقطت من كأس الشعر في بحر الدراما، فهاجت أسارير المفرادات، وتلاطمت أمواج المعاني، واشتعل السرد شعرًا مع الكاتب السوريّ المخضرم نور الدين الهاشمي، الذي استجمع في جلسته ما بين الحكاية الدرامية التشويقية، والصراع المحتدم في نفوس الشخوص، والمشهدية الشعرية، ممسكا بلجام السرد يأبى أن يُسلِمه إلى فرسة الشعر الجموح.

الأكثر قراءة