أهم من الرأي العام العالمي

 

غسان الشهابي **

** كاتب بحريني

منذ أن بدأت التحركات على أرض مدينة القدس لمحاولة صد المستوطنين عن اغتصاب منازل حي الشيخ جراح، والتحليلات العربية- العربية لا تتوقف عن الطريقة المثلى في التعامل مع هذه الأحداث، وكيف يمكن للفلسطينيين أن يكسبوا هذه المعركة غير المتكافئة؟!

وعلى الرغم من اتساع جمهور المتخاذلين من العرب، واليائسين والبائسين والمأجورين والمنتفعين، إلا أنهم جميعاً خنسوا وهم يرون الشعب الفلسطيني يسطّر بصموده البطولي أروع صور التضحية والبطولة، وهذه ليست عبارات مجانية ومبالغات لغوية، لكنها حقيقة شهدها العالم الذي بات كل شيء مصور لديه وموثّق، لتعود القدس من جديد، وفلسطين من جديد، في بؤرة الاهتمام العربي والعالمي، وتتعثر خطوات التهافت والجري بأقصى السرعات للارتماء في الأحضان الناعمة الدافئة الملساء للثعبان الصهيوني. وابتلع الناعقون ريقهم وهم يرون أن جميع ما حاولوا ترويجه- عن "بيع الفلسطينيين أرضهم لليهود"، و"التآمر"، و"الاسترزاق"، و"الابتزاز"، وغيرها من التعبيرات التي روّجوها، وجدوا المنافذ التي تسهّل مرورها، وتبارك من طرف خفيّ شيوعها بين الناس، قد تجمّدت؛ لأن الناس تنسى بسرعة كمّ التضحيات التي بذلها الشعب الفلسطيني والشعوب العربية كذلك في سبيل هذه القضية، ولم يبق لهم إلا عبارات التهافت والخذلان التي تريد في النهاية بث الإحباط في أوساط الشعب العربي، وخصوصاً الأجيال الصاعدة لكيلا ترى في فلسطين وأهلها إلا حفنة مرتزقة متخلفين، ومن الأفضل أن تترك البلاد لواحدة من أفضل دول العالم وأكثرها تقدماً.

ما إن دخلت حركة "حماس" المعادلة بصواريخها، حتى انتعشت آمال هذا الفريق في العودة مجدداً إلى الواجهة ليقول: إن "حماس" قد غيّرت المعادلة، وأن وضع القضية الآن بات حرجاً أمام العالم، وأن المنطق يقول: بأن ميزان القوى يميل مع الغاصب، وأن من المنطق بالصبر حتى تكون لدى الفلسطينيين القوة الكافية، وأن الرأي العام العالمي- الذي كاد ينتصر لفلسطين- قد نكص؛ لأن "حماس" مصنفة "إرهابية"، وأنها تدكّ منازل المدنيين الإسرائيليين "الآمنين"! وأن جيش العدو سيصبّ جام غضبه على رؤوس أهالي غزة الذين سيكونون هم الضحايا بينما "بارونات" الحرب يتمتعون برغد العيش من أموال المتعاطفين!

"الرأي العام العالمي" واحد من مرتكزات هذا الفريق في المجادلة بشأن "بربرية حماس"- على حد زعمهم الكاذب- بدخولها في الصراع من أقصى باب لم يُحسب له حساب، فخلط الأوراق والأنساب، وضيّع على الفلسطينيين فرصة اكتساب تعاطف الرأي العام العالمي... ولكن من الأجدى أن يُجيب هؤلاء: أليس الرأي العام العالمي هو من صوّت لقيام هذا الكيان؟ أليس هو من يموّل الكيان تعويضاً له منذ الحرب العالمية الثانية؟ أليس هو من قام بالتخلص من يهوده لإرسالهم إلى أرض فلسطين؟ ألم ير هذا "الرأي العام" ما فعلته عصابات الصهاينة في 1948، و1967 وبقي ساكتاً إلا من بيانات خجولة؟ ألم يشهد الرأي العام العالمي حصار بيروت، والاعتداءات على لبنان وآخرها في 2006؟ ألم يعلم بالانتفاضات المتعاقبة والهبّات المتلاحقة؟ ألم يكن هناك حين ارتكبت آلة البطش الصهيونية حروبها المتكررة على غزة بلا هوادة ولا رأفة؟ ناهيك عن الاعتداءات اليومية، وتقارير منظمات هيومان رايتس ووتش، ومراسلون بلا حدود، وأطباء بلا حدود، وغيرها من المنظمات الدولية التي أدانت كل أعمال الكيان المحتل؟ ألا يفعل الكيان "المختل" ما يريد فعله، ولا يعود إلى ثكناته إلا بعد أن ينهي مهماته تماماً، ويأمره قادته بالعودة صامّاً آذانه عن النداءات والمناشدات والمطالبات، ويدعس - بأحذيته الثقيلة المتشبعة بالدم - على القرارات الأممية وهو عائد مثقل متصدّع مما اقترف.

من كان لا يزال يأمل أنَّه سينتصر بالطيب واللين والرقة والمسكنة في عالم يدّعي التحضر ولا يذعن إلا للغة القوة ومنطقها... لهؤلاء نقول إنَّ أهالي غزة- وخصوصاً من فقدوا أحبابهم- يطالبون بالاستمرار، حتى لا تذهب تضحياتهم سدى على مذابح الرأي العام العالمي.