"SPSS" والبناء الهش!

 

غسان الشهابي

 

لطالما تجاوزت الدراسات الكمية التي تعتمد على الاستبيانات وجمع المعلومات وتحليلها والخروج بنتائج يعتبرها البعض أنها الحق الذي لا يأتيه الباطل من خلفة ولا من بين يديه.

والمنهج الكمي، وإن ظهر في الولايات المُتحدة في النصف الأول من القرن الماضي، واستخدم في معرفة الجمهور في بعض البرامج الإذاعية آنذاك؛ إلا أنَّه سرعان ما غزا العالم وأبهره، ونراه كثيراً ما يُعطي مؤشرات عن مواقع المتنافسين في سباق الرئاسة الأمريكية، وتفضيلات الجمهور لأيّ من المُرشحين خصوصاً بعد المناظرات.

وقد استعمل هذا المنهج في الكثير من الدراسات الإنسانية والاتصالية العربية بشكل مفرط حتى أصيبت الأبحاث بالتخمة جراء تصميم استبانة، وتوزيعها، والرجوع إلى تجميعها وتفريغ البيانات، ثم الخروج بنسب مئوية. هذا لا يعني أنها ليست وسيلة محترمة للبحث، ولكنها – ككل الوسائل – تعتمد على كيفية استخدامها.

ومن هذه الاستخدامات المنحرفة ما رواه دبلوماسي عربي سابق يستعرض – بفخر - فذلكته في التدليس.

يقول إنِّه كان قبل عدة سنوات لا يزال شاباً في بداية الثلاثينات، وكان يتحيّن الفرص ليظهر على الساحة، أي ساحة، لا يهم، ولكنه كان يُريد أن يُعرف، فلربما تدور معه الدوائر ويصبح مسؤولاً في الحكومة، وهذا دفعه للمشاركة في أي ندوة، وأي مُؤتمر، ويحاول هنا وهناك التقدم بورقة لعلّها تكون بطاقة مروره إلى ما يحلم به، حتى حدث ما تمنى.

يقول أعلنت وزارة خارجية بلاده عن تنظيم جلسة نقاشية عن علاقات بلاده بالاتحاد الأوروبي، ولا يعرف أي صدفة أتت باسمه من ضمن المُتحدثين. ولأنَّ الموضوع ما كان من اختصاصه، ولأنه ما كان يريد إضاعة هذه الفرصة؛ فأخذ يُفكر حتى التمعت في ذهنه طريقة.

صمم الشاب استبياناً، وقام بتعبئة نسخاً كثيرة منه بنفسه، وحمل النتائج إلى صاحبه الذي كان يعمل على ما يعرف بـ "الحزمة الإحصائية للعلوم الاجتماعية "SPSS، وأعطاه إياها. أدخل الرجل البيانات، وخرج بالنتائج والنسب المئوية التي تقول إنَّ هناك نسبة من الرجال في بلده، الذين يحملون البكالوريوس والذين يتراوح دخلهم ما بين كذا وكذا، يرون أنَّ علاقة بلدهم بالاتحاد الأوروبي مضطربة، بينما رأت نسبة النساء اللاتي يحملن شهادة الماجستير بأنَّ من الأفضل الاندماج في السوق الأوروبية... وهكذا تتالت النتائج المذهلة التي كانت تتسع لها ابتسامة الشاب المُغامر.

عندما اعتلى الرجل المنصة إلى جانب متحدثين آخرين، أصيب بارتباك شديد إذ لمح في الصف الأول صحافي عربي مُهم مُقيم في دول أوروبية، واستطاع التعرف على أكثر من شخصية مهمة حاضرة الجلسة التي ظن أنَّها مغلقة، فبلع ريقه عدة مرات إلى أن وصل دوره للحديث، فقوّى قلبه وانطلق يستعرض ما توصل إليه من خلال بحثه واستطلاعه آراء النَّاس في بلاده. عند انتهاء الجلسة، وقبل أن ينزل من على المنصة تقدَّم إليه الصحافي العربي فشعر صاحبنا بـ"الفوقية" وهو يسمع طلب الصحافي أن يزوده بالنتائج حتى يكتب عنها مقالاً، وما أن نزل حتى امتدت إليه الأكف تصافحه على هذه الزاوية التي لم تخطر على بال أكثر المتخصصين تعمقاً، وقدمت إحدى المسؤولات في مركز بحثي مرموق بطاقتها ليرسل إليها دراسته، فصار في تلك اللحظات حديث الجلسة التي كان فيها.

ومن بين ضحكاته المجلجلة كان يقول إنه رأى هذه النسب تستخدم لأكثر من مرة ومن أكثر من جهة على أنها دراسة علمية.

لم يكمل "الرجل" القصة بعد ذلك: لماذا تمَّ الاستغناء عنه بعد أن نال مراده في الالتحاق بعمل مرموق نسبياً، إذ يبدو واضحاً أنَّ البناء الهشّ انهار من تحت أقدامه.