بيوت كبار المواطنين!

 

غسان الشهابي **

يُعد ارتفاع سن الوفاة في الكثير من الدول واحدًا من المُؤشرات المُهمة على جودة الحياة، وتلقي الإنسان رعاية صحية مُتقدمة، تقيه الانعكاسات السلبية على مجمل حياته. وهذا صحيح، ولكنه في المقابل يزيد من شريحة كبار السن التي بدأت تتقدم في أوروبا، بينما تقول الأبحاث الدولية إن كبار السن سيفوقون– لأول مرة في التاريخ– أعداد الصغار في المجتمعات جميعًا مع العام 2050، ولا سبيل حينها لتفاخر الدول النامية بالمُجتمعات الشابة.

المعضلة بدأت ولكن مجتمعاتنا العربية لا تزال تُكابر وتناطح جدران المقولات المتوارثة عن أهمية بقاء كبار السن مع أهاليهم في البيوت، محاطين بالجو الأسري الدافئ، بدلًا من "رميهم" في مراكز كبار السن. ويُعتبر من يأخذ والديه إلى هذه المراكز جاحدًا، غير بارٍّ بهما، ويُريد التخلص منهما، وتتجه الأنظار إلى الطرف الآخر (الزوج أو الزوجة) بأنَّه وراء هذا القرار.

وإن كان كِبَر السن له درجات ومستويات، فإن هناك دعوات لإشراك كبار السن في جميع مناحي الحياة، فهم منتجون، وأصحاب خبرات، ولا يزالون قادرين على العطاء في مرحلة ما من شيخوختهم، ولكن المسائل تتعقد مع كل سنة إضافية في أعمار كبار المواطنين، وقد لا تحتاج بعض الوظائف العضوية إلا إلى شهور لتكون أقل أداءً مما كانت عليه، فهنا سيحتاج الكبير إلى الكثير من الرعاية المتخصصة، والمراقبة الصحية اللصيقة والدقيقة، ومعرفة التغيرات التي تطرأ عليه، وكيفية التصرف تجاهها، ولا يعود وجود عامل/ عاملة منزل مخصص له بالأمر المجدي؛ لأنَّ العناية هنا تتجاوز ضبط مواعيد الأدوية التي يتناولها، فيما وجود ممرض مرافق لكبير السن في بعض الحالات الأخرى أمر لا تطيقه شريحة كبيرة من الأسر لارتفاع الأجور التي تدفع للممرضين المقيمين.

ويقول تقرير لمنظمة الصحة العالمية نشر في أكتوبر الماضي: "رغم أنَّ هذا التحول في توزيع تركيبة السكان المتسم بتزايد أعداد كبار السن– أو ما يعرف بشيخوخة السكان – قد بدأ في البلدان المرتفعة الدخل (ففي اليابان مثلا، يمثل الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 60 سنة نسبة 30% من السكان)؛ فقد غدت البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل تشهد الآن الجزء الأعظم من هذا التحول. وبحلول عام 2050، ستأوي البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل ثلثي سكان العالم الذين تبلغ أعمارهم 60 عامًا فما فوق".

إذا ما كانت الاختلالات الاقتصادية الصعبة الطاحنة تزحف حثيثًا لتفقر المجتمعات الواحد تلو الآخر، وتجعل الفئات بدءًا من الأطفال وصولًا إلى الناضجين في وضعية حياتية صعبة بالكاد يستطيعون من خلالها تأمين ما يجعلهم يحيون فقط، ناهيك عن "جودة الحياة" التي ستغدو حلمًا بعيد المنال للقادرين على العمل أساسًا، فما بالنا بمن لا يقوون عليه؟!

إنَّ تعزيز وضعيات بيوت كبار المواطنين، على أن تكون مساكن لهم مبنى ومعنى، ودعمها رسميًا وأهليًا بات ضروريًا إذا ما أردنا أن نبرّ كبارنا، حيث يلتقون بمن يشبههم، يتبادلون ذكريات مرحلة عمرية عايشوها معًا بدلًا من التململ الذي يبديه الأحفاد ناهيك عن الأبناء، يمارسون أنشطة تناسب أعمارهم وطاقاتهم، ويكونون تحت المراقبة الصحية التي تؤمّن أكبر قدر من العناية بهم، كل هذا في ظل التواصل المستمر من الأهل وبخاصة الأبناء والأحفاد، حتى يقوموا بواجبهم ويشعروهم بالمودة التي يحتاجها الكبير، والتي لا يحتاج أكثر منها... ربما هذا هو "الإحسان" بالوالدين مستقبلًا.

** كاتب بحريني