يرضى القتيل وليس يرضى القاتل!

غسان الشهابي

بعد أن هدأ غبار الحرب الإسرائيلية على غزة، ولو مؤقتاً، فإن النظر إلى واقع الحال صار أولوية بالنسبة للداخل الفلسطيني والخارج العربي؛ لأن توقف التراشق لا يعني انتهاء القضية في كل الأحوال، بل ربما هي بداية جديدة لها، بعد التعاطف الكبير الذي سجله الحضور الفلسطيني عالميًا، في ظل تراجع رسمي عربي.

رجوعًا إلى الحالة المجهرية، إلى حجر الزاوية، إلى حي الشيخ جراح من جديد، كانت هناك أصوات، بعضها رسمي وبعضها شعبي عربي، يقول بأهمية نزع فتيل المشكلة بالاستجابة إلى قرار المحكمة الإسرائيلية والخروج من الحي، والبحث عن مكان آخر للسكن، فليست كل الأرض هذا الحي، وليس هذا الحي هو نهاية المطاف، والهدف من ذلك أن يسلم السكان من الأذى، وتحقن دماء الفلسطينيين، ليسوا فقط من يحيط ببيت المقدس؛ بل وحتى أولئك الذين هم في غزة والذين دفعوا الفاتورة الأعلى في هذه المواجهات.

هذا يذكرني بما كتبه الصحافي المصري المقيم في الولايات المتحدة يحيى غانم، الذي كان في البوسنة بعد عامين ونصف العام من المذابح والمعارك الطاحنة، فسأل الزعيم البوسني علي عزت بيجوفيتش عندما التقاه في مكتبه الرئاسي: "ألم يحن بعد الوقت لإبداء بعض المرونة؟ هل تضركم بعض التنازلات"، والسؤال ينطوي على سؤال آخر: ألم يحن الوقت لأن يتوقف قتل البوسنيين؟ وبالفعل أردف غانم: "الموقف كارثي... الشعب لم يعد يجد سوى عشب الأرض ليأكله... المجتمع الدولي يبدو غير مكترث وأحيانا يبدو متواطئا... القدرات العسكرية للبوسنويين تتآكل، وهي لم تكن بالأساس قوية".

مرّت ثوان من الصمت بين الرجلين، قطعها الرئيس بوقوفه واتجاهه إلى خارطة البوسنة المعلقة على الحائط، وقال: "إنهم يريدوننا أن نتنازل عن هذه الأجزاء من البوسنة"، أشار إلى الأجزاء المقصودة بأن علّمها بالدبابيس الحمراء، مناطق متعددة ومن بينها أجزاء من العاصمة، وأردف "قد نكون الأضعف عسكريًا ولكن يجب أن تعلم أنّ التنازلات حاليًا لن تشبع نهم المعتدي وحلفائه... وبمجرد تنازلنا ستظهر طلبات بتنازلات أخرى... وفي النهاية لن يبقى شيئًا من الوطن... قوتنا تكمن في صمودنا وامتناعنا عن التنازلات لأطول فترة ممكنة... بهذا فقط يمكننا أن نحفظ لهذا الشعب الحد الأدنى من وطن". وأنهى تعليقه بقوله: "الموت نهاية كل شيء، وهو فعل في المستقبل، كما أنه ليس بإرادتنا... ليس من بين خياراتنا الموت بل الحياة... ولكن إن كتب علينا الموت بأيدي آخرين فكل ما علينا أن نفعله هو أن نستقبله ونحن واقفون".

سنستمد من هذه القصة الكثير من المعاني، وقد زوّدنا العالم بحوادث مشابهة كثيرة، ولكن المعنى الأساس في هذا الأمر هو أن رجوع أصحاب الحق خطوة، لن يترك مسافة آمنة مع أصحاب الباطل؛ لأن الباطل سيتقدم خطوة، ويكسب موطئ قدم، وسيطلب المزيد، إنه سرطان شرس لا يشبع ولا يتوقف عند حد، بل يأكل ما نتنازل عنه ليكبر ويقوى ويطالب بالمزيد.

هذه الدعوة ليست للموت والانتحار الجماعي الفلسطيني، ولكنها تذكير بما حدث عندما أسندت البندقية الفلسطينية للجدار ودخلت السلطة إلى الحوار، وما آل إليه الوضع الآن بسلاسل التنازلات.