التكريم لمن؟!

 

غسان الشهابي

عندما تيقّن العالم بأن هذا الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجردة، والذي ضربنا أخماساً في أسداس لتعريفه والتعرف عليه وعلى دورة حياته، قد تمكّن من جميع الدول، ولم يعد هناك مكان في العالم – تقريباً – في مأمن منه، انبرى الأطباء والعاملون في الحقل الصحي بشكل عام، ليتصدّوا لهذا الكائن الذي قيل بأنه طبيعي، وقيل بأنه مصنّع، وأيّاً ما قيل، فالواقع أنَّه أصاب العالم بالرعب والشلل بعدما ظننا أن ليس هناك ما يمكن أن يحدّ من حركتنا.

في العودة إلى الحياة الطبيعية تدريجياً، واختبارياً ربما في بعض الدول، ذهبت العالمة البريطانية سارة غيلبرت إلى ملعب ويمبلدون للتنس الأرضي الذي عجّ بالمتفرجين، ودعيت لتجلس على مقعد خاص تكريماً لها، وإذا بالمذيع الداخلي ينوّه بأنها موجودة، وأنها إحدى الذين ساهموا في اختراع لقاحات مضادة لكوفيد-19، فهي كانت على رأس الفريق البحثي للقاح أوكسفورد. عندها اشتعلت المدرجات بالتصفيق الحادّ لها ولفريقها، ووقف عدد من الجمهور تحية وتقديراً واحتراماً لها ولكل من أسهم في عودة الحياة إلى طبيعتها.

العام الماضي نفسه، زادت نوبات الحماس لدى طائفة من الناس ليقولوا الأطباء وحدهم من يستحقون التكريم والأضواء وأن يكونوا مقدّمين على بقية النَّاس، وليسوا الممثلين والمطربين والعازفين والتشكيليين وغيرهم الذين يحتفي العالم بمنجزاتهم الوهمية التي سواء إن غابت وإن حضرت.

يمكننا تفهم هذا النوع من الحماس في وقت غير طبيعي كالذي لا نزال نمرّ به، فالطواقم الطبية عملوا بطاقة غير طبيعية، ولمدة طويلة من الوقت، ساندهم المتطوعون والقوات الأمنية والمخططون، وأهل الإحصاء، والمعلمون، والكل عمل عملاً بطولياً (إن جاز لنا تسميته بهذا الاسم)، كلٌّ من موقعه، ولكن هذا لا يجعل الدنيا تتوقف عند طائفة من الناس تنحصر عندهم وحدهم أحقية التكريم.

فالتائه في الصحراء الذي يُوشك على الموت عطشاً، يكون كأس ماء واحد عنده هي الدنيا، والواقع في بئر سيرى أن حبلاً مشدوداً إلى الخارج لا يساوي شيئاً من المال في الأوضاع الطبيعية، هو أغلى ما يمكن أن يجده في تلك الساعة، وهكذا فلكل ساعة لبوس، ولكل ظرف ملابساته، وفي ظرفنا الراهن، فإن الطب والأطباء هم المقدَّمون على الجميع، مع أنهم في أكثر من بلد يقولون بأنهم يقومون بواجبهم وحسب، حتى غيلبرت نفسها لم تسلم من انتقادات بعد أن انتشر فيديو التصفيق هذا، فمن قائل بأن لقاحها لم يكن ناجحاً، ومن قال بأن الطاقم العامل معها كان من كبار العلماء والمتخصصين فليست هي وحدها، ومن قال بأن الأمر لا يعدو "إبداع إعلامي"...إلخ.

التكريم أمر جميل وملهم، يستحقه الأطباء والبناؤون والممثلون والمزارعون والمكتشفون والمعلمون والآباء والسعاة والموسيقيون والمخترعون والمهندسون والأدباء والزبالون والمغنون والحقوقيون، ولنسمي من الناس ما نشاء بحسب انتماءاتهم الوظيفية في هذه الحياة، فلا أحد يمكننا الاستغناء عنه، ولا أحد يستحق مساحة أكبر من التكريم أكثر من الآخرين، حتى وإن ساقتنا الآلة الإعلامية الاستهلاكية لتبجيل طائفة واحدة من المبدعين، فلا يعني ذلك أنهم لا يستحقون التكريم، ولكن على ألا تعشي أنوارهم الأبصار وتطغى على أدوار غيرهم ممن يجعلون العالم قابلاً للعيش.