الثورة السودانية.. بطولة "التفاصيل الصغيرة"

محمد علي العوض

 

شبع الناس بحثًا وتناولا للثورة السودانية، وكيف أنّها كانت نموذجًا لانتصار السنبلة على الجراد، وتركيع البندقية بقوة سلاح السلميّة التي اختارتها ثورة ديسمبر المجيدة منهجا لإزالة نظام البشير؛ أعتى الأنظمة العسكرية والديكتاتورية التي مرّت على السودان.

وبخلاف مثابرتها لتقديم إجابة عن السؤال المفخخ: من البديل؟ استطاعت الثورة السودانية أن تقدم دروسا ولوحات مختلفة وجديدة على أدبيات الثورات في العالم.

ولعلَّ أول هذه الدروس واللوحات: لوحة تكسير تابو "البطل" و"الوجه المألوف".. فكل النّاس في ثورة ديسمبر كانوا أبطالا وعلى رأسهم الشهداء وذووهم، ولا أجد دليلا أصدق على تكسير تابو "البطل" من أحمد ربيع؛ ممثل قوى الحرية والتغيير، والذي طفقت قطاعات عريضة من الشعوب العربية وحتى الشعب السوداني نفسه تسأل عن كُنه وهُوية الرجل المفوَّض بالتوقيع نيابة عن قوى الحرية والتغيير، والذي يجلس في المنصة بجانب "حميدتي" نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي.

بالطبع، وقياسًا على عقليّة ما قبل الثورة، ربما يكون التساؤل في محله؛ فالناس كانوا يتوقعون أن يروا شخصيّة معروفة/ مشهورة في السودان على غرار الدقير، المهدي، الميرغني؛ صديق يوسف؛ فحتى أحمد ربيع نفسه -خريج كليّة التربية بجامعة الجزيرة، والحاصل على ماجستير علوم الرياضيات؛ والذي يعمل سائقًا بالليل لمجابهة تكاليف المعيشة المرهقة- لم يكن قبل شهور قلائل يتوقَّع أن يجد نفسه مُمسِكا بقلم التوقيع نيابة عن السواد الأعظم من جماهير الشعب السوداني.. وكما وصفه إبراهيم هباني: لم يكن يتوقع أن يخرج من فصول مدرسة خالد بن الوليد للبنين بضاحية الحاج يوسف، شرقي الخرطوم، إلى قاعة الصداقة موقعًا على وثائق الفترة الانتقالية نيابة عن قوى إعلان الحرية والتغيير.

هذا المَلْمَح غير المتوقَّع يُشابه فرادة الثورة السودانية التي أزهرت وجوهًا وأفكارا جديدة تُشبه أحلامَ وأشواق شباب السودان الجديد، وعرضت مشاهد فيها من الرمزية والرسائل القيمية ما فيها؛ فمشهد المعلم أحمد ربيع رمزية على أنّ المعلم له من القداسة ما يجعله بطلا في كل الأزمان والأمكنة، وأنّ الطبشور والسبورة والعلم هي أول خطوات نهضة الشعوب، وأنّ العلم يوسّع مدارك العقول لتنبذ الحرب وتجنح للسلام. فاختيار المعلم أحمد ربيع -كما قال إسماعيل التاج المتحدث باسم تجمع المهنيين السودانيين- يأتي عِرفانًا بالدور النقابي النضالي في مواجهة ديكتاتورية النظام السابق، ويبعَث برسالة مفادها أنَّ التعليم قضيّة أولوية بالنسبة للحكومة الانتقالية المُقبلة، وأنّ المعلم يجب أن يكون رأس الرمح في عملية التغيير.

أيضًا فضيلة الإيثار والترفُّع عن المناصب الحكومية وطلب الإمارة كانت حاضرة في مشاهد ولوحات الثورة السودانية؛ فكثيرٌ من القوى السياسية -وعلى رأسها حزب المؤتمر السوداني، والحزب الشيوعي، وحزب الأمة، وتجمع المهنيين- أعلنت عدم رغبتها بالمشاركة في الفترة الانتقالية المرتقبة وشغل المناصب العامة، واكتفتْ بمُمارسة دورها الرقابي وحراسة قيم الثورة ومكتسباتها من تحت قبة البرلمان؛ رَغبةً منها في البُعد عن شرور المحاصصة الحزبية، وإفساح المجال أمام رجال التكنوقراط لإيجاد حل لأزمات البلاد المتكررة ووضعها على طريق التقدم والتنمية وإرساء مبدأ الديمقراطية في السودان.

وفي مشهد إيثار وطني آخر، تزدحمُ فيه بشريات العهد الجديد في السودان، نلمح مولانا سيف الدولة حمدنا الله -مُرشح قوى الحرية والتغيير- يعتذر عن قبول منصب وزير العدل لصالح الدكتورة ابتسام السنهوري؛ قناعةً منه أنَّ الذين صَمَدوا وبقُوا داخل الوطن أحق بالمناصب العدلية من أمثاله الذين ظلوا مُشرَّدين خارج الوطن طوال فترة حكم الإنقاذ، وكتب مُعبرًا: "إنّ مهنة العدالة بالذات تستلزم في صاحبها أن يعيش ظروف التبدّل التي حدثت أثناء هذه الفترة الطويلة بالمجتمع والمهنة على حدٍّ سواء. وعن نفسي، فقد جعلتني الإنقاذ أعيش الثلاثة عقود الماضية وأنا أتنقل من كنف كفيل لكفيل بين ثلاث من دول الخليج الست، ولم يبق عند أمثالي من أبناء المهنة ما نُقدِّمه للوطن أكثر من ملاحظات ورؤى قد تُخطِئ وقد وتُصِيب، وبتنا في انتظار خروج الروح إلى بارئها بعد أن أكرمنا الله برؤية نهاية الإنقاذ". ويمضي بالقول: "تابعتُ مثل غيري ترشيح شخصي في منافسة على الهواء مع الأخت الدكتورة ابتسام السنهوري على منصب وزير العدل، وورد في تفاصيل ذلك أنَّ فرصتي معها متساوية، والحق أنّ في ذلك ظلما للدكتورة ابتسام؛ فهي من الجيل الذي صنع الثورة، ثم إنَّها أنثى قدّرت مواثيق الثورة أن تكون لجندرها مقاعد تقارب مقاعد الرجال، وابتسام شابة مقتدرة أرى فيها مستقبل البلاد وشمسه القادمة، وقد تدرَّبت معي وأنا قاضٍ بمحاكم بحري، وهي طالبة في الجامعة، وقد علمت وقتها أنّها من النوابغ".

وكتبَ الكاتب المغربي على أنوزلا، أنَّ إحدى اللوحات التي قدمتها الثورة السودانية هي "الاستثناء" الذي تمثل بوجود قيادة جماعية، بمثابة ضمير جمعي للأمة السودانية؛ ممثلة في حركة الحرية والتغيير، وفي صلبها وطليعتها تجمع المهنيين السودانيين الذي يُمثل رأس الحربة داخل الثورة السودانية بقطاعاتٍه المهنية المختلفة.

لم يَكُن لتجمُّع المهنيين السودانيين رئيس أو نائب رئيس وخلافه؛ فالقيادة جماعية، وهيكلة التجمع الأفقية تقوم على سكرتارية بها ممثلون لمكوناته النقابية.

وكان بمكانة البوصلة وبوق الثورة الذي يهتدي به الشارع في إعلان المواكب وتحديد مساراتها وأزمان انطلاقها، وبلغتْ ثقة السودانيين في تجمع المهنيين درجة "البصم بالعشرة" على رؤيته وقراره حتى لو كانت تختلف أو تصطدم مع رؤية مكونات قوى الحرية والتغيير الأخرى، وربَّما مرد ذلك للصبغة النقابية التي يتميز بها التجمع وتوجس السودانيين من كل ما هو حزبي خلال السنين الأخيرة.

هذه الثقة أيضًا تُحَاكِي ثِقة الشارع السوداني في صديق يوسف أو "عم صديق" كما يحلو للجميع مناداته، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، والذي وصفه أحد الإسلاميين بأنّه "رجل يشبه الملايين من الآباء والناس العاديين.. أغبش الوجه، واضح الفكرة، عديل الاستقامة دون اعوجاج أو شرخ أو انكسار لم يهادن أو يداجن أو يقف نصف موقف".

وعُرفت عنه الشفافية وعدم الكذب أو النفاق؛ لذا بات "زرقاء يمامة" الثورة السودانية، ويُحكَى أنّ كثيرًا من أقطاب قوى اليمين المضادة لتوجهه اليساري وقوى الأحزاب الليبرالية الأخرى، حين يحدث خلاف مع المجلس العسكري حول نقطة ما؛ كانت تسأل عن رأي "عم صديق" لتتبناه وتبني عليه رؤاها القادمة، فهو صاحب نظرة ثاقبة لا تعرف الميل أو المداهنة.

المرأة السودانية "الكنداكة" كانت وقود الثورة؛ فالثورة في السودان أنثى، وشكّلت العدد الأكبر من المتظاهرين في الشوارع، وكانت زغرودتها ساعة زمنية وإيذانا ببدء انطلاق التظاهرات والمواكب الجماهيرية الداعية لإسقاط النظام السابق؛ فتبدو المظاهرة -كما وصفها عزمي عبدالرازق- "كما لو أنّها ليلة عرس".

مثَّلت الثورة السودانية حالة شعبية عامة، ومزاجا سودانيًّا خالصًا، أفرز أدبيات ونكات وأشعارًا ولوحات وهتافات جديدة، وبات يتغنَّى ويتمثل بها حتى الأطفال؛ حيث تقول النكتة أنّه في أحد أحياء الخرطوم انقسم الأطفال إلى فريقين؛ الأول: فريق الثوار الذي يُصيح (مدنية)! والثاني: فريق القوات الأمنية الذي يصيح (عسكريّة)! واشتبك الفريقان في عِراك صاخب أشبه بالحرب! بينما جلس طفل وحيد بهدوء بعيدًا تحت شجرة يتفرّج على المتعاركين دون تدخَّل، فاقترب منه رجل وسأله: لماذا لا تلعب مع أصحابك؟! فرد الطفل: "أنا ألعب دور الوسيط الإفريقي".

وسخرية من كثرة إعلانات المجلس العسكري عن قيام محاولات انقلابية عسكرية؛ يُقال إنّ عقيدا بالجيش السوداني أغضب زوجته، فما كان منها إلا أن رفعت يديها بالدعاء قائلة: "اللهم اجعل اسمه يظهر في انقلاب الأسبوع القادم"!