الكاتب حمد الناصري
اسمع يا سعيد، انا أحبك بمحبة السلام بمحبة إيرين خالتي الكاهنة أم سحر.. خالتي " إيرين " تختار بعناية من يُجالسها وتفتح له آفاق من التأثيرات المختلفة، ولها الكثير من السّحر الغامض اللذيذ في عالمها.. طاقتها الإبداعية مُتصلة بالربّ طاقة لا نظير لها.. إلى جانب مُمارستها الكهانة في الدير المقدس في اليونان، تجد لها غرفة خاصة لا أحد يدخلها غيرها ومن تخصّه بمحبة الربّ. تصدح في جنباتها الموسيقى، ومقطوعات تأخذك إلى عالم مُتخيّل بل وتُدلف بك إلى عالم غير محسوس، عالم لن يُفارقك أبداً.
سكتت " كاترينا" وهي تنظر إلى سعيد الحوز الذي سرح بفكره بعيداً.. وأردفت: سأُعرّفك عليها.. لحظة وأدارت رقماً.. آلوو.. معاي صديقي سعيد الحوز، حابّ يتعرّف عليك.. أخبرته عن كل شيء.! لكنه عربي عنيد من بيئة صلبة كالحجارة بل هو أشدّ من الحجارة وأقسى.. تعالتْ عبر الهاتف ضحكات سمعها سعيد الحوز.. ثم كلمات شكر وتقدير.. أنا موجودة تفضلا إنْ شئتُما.
دهمه سأم مُفاجئ.. قطّب وجهه، طنين يصكّ أذنيه؛ أحسّت به وشعرتْ كاترينا أنه يحتاج إلى من يُخفّف من حدّة توتّره. فأردفت: أكون مسرورة حين أراك في غاية الأمل، وتنظر إلى الحياة بعين ملؤها البشاشة التي رسمتها بابتسامة نقية.. تُعجبني ابتسامتك، لذيذة كمبسمك وملامحها الجذّابة، فيها أجد طيبة وغبطة وسرور.. أنت إنسان تختزل كل الحيوات وتُجيد التأثير عليها.. قال سعيد الحوز، بعد تنهيدة محسوسة ومستوعبة: لا أعرف عن ماذا أردّ عليك؟ لا تظنّين بي غير شيء واحد، هو أنّني رجل أحترم نفسي أكثر ممّا يحترمني فيها غيري.؛ أكره ابتزاز اليائسين وتهديداتهم الفاقدة لاختراق حقوق غيرهم، لا مكاسب تأتي من تهديد، لا خير في وضعٍ يَفقد اليأس، فيفرط فيه، فإنّ الفرط قدرهُ المشقّة.. فكل حنين يأتي، يتلوه حنين بنفس القدْر، وأزيد ذلكم هو الفرط، والذي يغلظ من تلقاء نفسه ويزيد في فرطه، ويدنوا منه الخوف، ربّما يهوى به إلى حيث لا يدري.. إلى موقف ومُصيبة أو موت يُباغته، وإنْ نحن بقينا، نردّ ونُعقّب ونتساءل، تضمحلّ أنفسنا، ونظلّ عاكفين في غفوة، قد تُنهي مسار قوتنا، وقد لا نستيقظ بعدها.. وإن قُدّر وأنْ استيقظنا فلا حدّ لما يُحيط بنا غير مفسدتكنّ.. غضبت كاترينا ولأوّل مرّة، سكبت جام غضبها على سعيد الحوز.. ماذا تعني؟ أفصح.. لا تخف.. أتستحقرني يا ابن الحوز ولم تُراع أني أقبع قُبالتك، ألم تستحي مني؟ إلى هذا الحدّ تستخفّ بي وقد جعلتُ لك مكانة في قلبي؟ فردّ سعيد: لا يا كاترينا، حاشا عليّ أن أستحقرك، فأنتِ إنسانة لا أعرف دوافعها، ربّما غُرر بها لحاجة أو شيء آخر فوق طاقتها.. انظري حواليك.. من الذي يتهافت عليك.. شباب ورجال أقبح من فعلكنّ، وإن بدت الأمور تسير في توازي ذلك الفِعل، وغيرهنّ كثيرات.. سمراوات وشقراوات وبيضاوات وأخريات على أسرجه وقناديل يُغالطن ماهنّ عليه، يَقنعن أنفسهن وينزعن ما يَسْترهنّ.. بربّك، أذلك هو الجمال؟ ههههه ضحكت.. تعال إلى خالتي إيرين الكاهنة واستعرض رغبتك ونشّط قُدرتك، وشجّع نفسك وكُن مع الحياة التي تُعطيك بريقاً، ربما خالتي إيرين لا تقتل مشاعرك ولا تدمّر أحاسيسك، قلبها ينبض بالحيوية والجدّية بلا بلادة، تحمل مشاعر الألوان كلها.. قُم، ودعْ عنك بقبقة الأحاديث التي ليس فيها غير الأقوال، وحكايات السّبع المُوبقات، قُم أيها المُبَجّل السماوي ولا تصبح كلوح خشبي.. إعطِي لنفسك رغباتها، وامنح جسدك حق الزحف إلى حصينة انتظرتك وقتاً طويلا ولم تُزلزلها ثقافة الملامح، بُطولة عاجزة، قُم، وحطّم خوفك واكْسر مخاوفك واصْعد بحكمة الرجال وفاعلية النشاط، فالموت الذي تُخَوّفنا به ، ليس بأشدّ من الألم والقهر الذي تُمارسه في عجزك. تعال معي وأفرغ ما في جُعبتك، أو بالأحرى أفرغ ما في داخلك، وستعلم حينها بأيّ أهواء قد ضَللت.
وإلى غرفة "إيرين" أم سحر.. دلّفا معاً، كانت الإضاءة خافتة.. لم تكن غُرفة بل هي جناح متكامل، أسقف الغرفة وديكوراتها وتصميماتها ومَنقوشاتها مُختارة بفنية وهندسة ذهبية.. يُغمض عينه تارة ويُترك الأخرى مفتوحة، يتأمّل المنقوشات والتصميم الداخلي في قصر مُصغر.. يُرهف سمعه، صوت ماء يترقرق، ينساب بطريقة مُبهجة، والموسيقى تصدح بصوت غنائي خافت، وعزف العود والدندنة اللحنية، نبضات تتناغم بإيقاعات تتحرّك من أوتار مشدودة على بعضها، لكأنها جدار يعضدها، والألحان كقطع مُتجاورات من العذوبة والروعة الباهرة، كأنها زُرعت في حنجرة إيرين.
قالت كاترينا وهي ترفع رأسها إلى خالتها إيرين: أعرّفكِ على صديقي سعيد بن يوسف الحوز، ولم تستغرب مجيئه، فربّما كان مخطّط له.. واكتفت بالترحاب.. قالت كاترينا: هذه إيرين السلام أم سحر وتُعرف بـ إيرين الحكيمة.. خالتي مُبدعة، سحّارة الأفئدة، كاهنة الأنفس المِعوجّة.. قال سعيد الحوز في نفسه: "محّد مِعوج غيرها، إنها تُشبهك، لا فرق بينكما " قالت ايرين: هل سمعت عن شاعر مصر إبراهيم ناجي.. تُعجبني هذه القصيدة.. يا فؤادي رحم الله الهوى، كان صرحاً من خيالٍ فهوى/ اسقني واشرب على أطلاله/ وارْوِ عني طالما الدمع روى/ كيف ذاك الحب أمسى خبراً / وحديثاً من أحاديث الجوى.
تُعَرّف "إيرين" بأنها خالة كاترينا وأم سَحر وتُعرف أيضاً، بـ إيرين السلام، وإيرين الحكيمة.. أردفت إيرين الحكيمة ، وهي تلتفت إلى سعيد الحوز.. هل تُحب العزف والغناء يا سعيد؟ لم يُجب سعيد الحوز بل ظلّ في صمت.. لو كنت تعرف بعض الإيقاعات لصوت عبد الحليم، لجعلتكَ تُغني.. أغنية "زيّ الهوا " هذه الأغنية تبكيني.. مطلعها يقول.. زىّ الهوا يا حبيبي زيّ الهوا/ وآه من الهوا يا حبيبي آه من الهوا/ وخدتني من ايدي يا حبيبي ومشينا/ تحت القمر غنينا وسهرنا وحكينا/ وفـ عزّ الكلام سكت الكلام/ واتاريني ماسك الهوا بإيديا ماسك الهوا.
هذه القصيدة الرائعة من كلمات الشاعر محمد حمزة وتلحين بليغ حمدي، الذي لحّن أغلب أغاني عبد الحليم، وقد لحّن محمد الموجي لـ عبد الحليم حافظ، كثيراً لكن أغنيتين ارتبطتا بصوت عبد الحليم ذو الصوت الأغلى أو العالي الرفيع؛ صوت لن يتكرّر أبداً، ولذلك لُقب بـ العندليب أي الساحر الخالد في أعماقنا.. أغنيتان عظيمتان من أشعار نزار قبّاني، من أجمل أشعار نزار ابن دمشق العظيم، وغنّاهما عبد الحليم بشاعرية، رسالة من تحت الماء، وقارئة الفنجان، تجسّدت كلماتهما في حنجرة حية، ظلّت باقية تصدح إلى يومنا هذا.
تركتْ "إيرين الحكيمة " آلة العود، وانتقلت إلى آلة البيانو.. التي رُكنت في زاوية الغرفة، وكانت جاهزة، فـ إيرين ذات مهارة عالية في العزف على آلة العُود وكذلك على البيانو، بأداء صوتي وعزف بلوحة المفاتيح، وأخذت تركّز، وتحسّست حنجرتها وظلّت تردّد بصوت خفيف.. كلمات..
إن كنت حبيبي ساعدني كي أرحل عنك / أو كنت طبيبي ساعدني كي أشفى منك /لو أني أعرف أن الحب خطير جدًا ما أحببت/ لو أني أعرف أن البحر عميق جدًا ما أبحرت/ لو أني أعرف أن الحب خطير جدًا ما أحببت/ لو أني أعرف أن البحر عميق جدًا ما أبحرت/ لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت...
لو عندك وقت طويل لأسمعتك اغنية فيروز التي مطلعها" سألوني الناس " أغنية من أجمل ألحان زياد الرحباني ومن تأليف منصور الرحباني.. ويظن الكثيرين انهما أخوين، لكنهما ليسا كذلك.. فـ زياد ابن عاصي الرحباني، مؤلف موسيقي لبناني كبير، خلّف ابنه زياد من الممثلة والمغنية اللبنانية البارعة فيروز.. ومنصور هو عم زياد وأخو عاصي الرحباني.. سأعطيك نبذة عن هذه الأغنية" سألوني الناس ".
أغنية ألفها منصور الرحباني ولحنها المبدع الشاب الصغير الذي لم يتجاوز آنذاك الـ 18 سنة، شاب متوقد طموح، بحب التلحين، شغوف بولع الموسيقى، غنّتها فيروز بصوتها وعذوبتها وبجمالها الفتّان.. اغنية عكست حنين فيروز لزوجها عاصي الرحباني حيث كان يعاني من مرض عضال، أقعده الفراش، اغنية تُشير إلى الشعور بالوحدة وغياب الحبيب.. سألوني النَّاس عنَّك يا حبيبي/ كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا/ بيعزِّ عليِّي غنِّي يا حبيبي/ ولأوَّل مرَّة ما منكون سوا / سألوني النَّاس عنَّك سألوني / قلتلُّن راجع أُوعى تلوموني.. سكتت ونكّست رأسها على صدرها بحزن، وبشاعرية رفعت صوتها.. /غمَّضت عيوني خوفي للنَّاس / يشوفوك مخبَّى بعيوني/ وهبِّ الهوا وبكَّاني الهوى/ لأوَّل مرَّة ما منكون سوا .. غمغمت إيرين الحكيمة.. ولم يَسِعها صوتها لتكمّل.. في هذه اللحظة؛ ميلاد إبراهيم ومعه زوجته سَحر وأخته خولة دخلوا الغرفة، وربّما كان لديهم رقم فتح الباب.. وأخذ كل واحد مجلسه، قالت ايرين.. يا سعيد، الأغاني القديمة مشاعر مُلهمة وأحاسيس مُبدعة، عميقة في ذاكرة البشر، تاريخها مُتجذّر أو له جذور بشرية، منذ بداية الإنسان وتكوينه على الأرض، ومنذ استقراره عليها وهو يُعبّر عن نفسه بالوسائل المُتاحة لديه، موسيقى.. ألحان.. إذ كانت الموسيقى وسيلة للتعبير عن الشعور قبل سعي الإنسان إلى الكلمات والتخاطب، فالموسيقى هي أداة فاعلة للتعبير النفسي، قبل نظم الشعر، فالشعر تطوير للغة والكلام والسرد، أمّا الموسيقى فهي تطوير للذات والنفس الشغوفة للتعبير الأكثر دقة وتفصيل للمشاعر والأحاسيس الداخلية... هزّ سعيد الحوز رأسه مُعجباً بإيرين الحكيمة وبهدوء نفسها.. فهمتْ إيرين الحكيمة بعد تفحص في مآلات الإستبشار، وعقّبت وهي تنظر إلى ميلاد إبراهيم وخولة وسحر، ثم التفتت إلى سعيد الحوز وكاترينا، وكأنها تتفحصهما.. وأردفت : من يكون له الصوت الأعلى هم العادلون في الأرض الذين يَتّبعون الشعر والموسيقى والألحان الجميلة.. لن تصلح الحياة إلا إذا صلحت المشاعر وقويتْ الأحاسيس.
يتبع 15