د. أحمد بن علي العمري
اتشحت محافظة السويداء الواقعة في الجنوب السوري بالسواد نتيجة الضربات الإسرائيلية المُستمرة عليها. إسرائيل التي تتدخل كيفما تشاء وأينما تشاء بلا حسيب ولا رقيب، وقد ذكرنا هذا في عدة مقالات سابقة، ولكن لا حياة لمن تنادي. فمن يوقف إسرائيل عن جرائمها المتكررة بلا هوادة ولا رحمة؟ فلا أمم متحدة، ولا مجلس أمن، ولا أمريكا، ولا أوروبا، فلا ضمير إنساني حي، ولا يقظة عربية إسلامية تنتخي.
دكت إسرائيل غزة بكل ما فيها من بشر وشجر وحجر وسوّتها بالأرض، واجتاحت كل الضفة الغربية بدون استثناء، وضربت العراق، وضربت وما زالت تضرب لبنان واليمن، وحاربت إيران، والآن أطلقت أفواه مدافعها على سوريا، ولم تكتفِ باحتلالها التاريخي للجولان. كل هذا بدعم وأسلحة من أمريكا وأوروبا وأمام مسمع ومرأى منهم، بل وسكوت مطبق أيضًا.
والغريب والعجيب وغير المفهوم أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية بعظمتها تطلب من الحكومة السورية سحب قواتها من السويداء، وهي القوات المطلوب منها فرض الأمن والأمان والنظام في المُحافظة، ولا توقف إسرائيل عند حدها!
يا تُرى، لو كانت إسرائيل تعرف أن سوريا بكامل قوتها، هل كانت تتجرأ لتضربها؟ أبدًا، ومن غير الممكن، فعندما تضعف الدولة تبرز المقاومة. لقد خذلنا كل المقاومات العربية باعتبارها أذرعًا لإيران، فيا ليتنا نخذل أذرع أمريكا في بلادنا حتى تتساوى الكفة ونكون بلا "هجري" ولا ميلادي، وتتصافى الأمور ونرجع إلى نقطة الاعتدال، وهي نقطة الصفر في أوطاننا.
لقد ضربت إسرائيل عددا من دول المنطقة، وربما تخطط لضرب دول أخرى، ولو بعد حين؛ فتحركوا يا دول الخليج قبل أن يفوت الأوان.
لقد فرضت إسرائيل نفسها بالغطرسة أمام هذا الصمت العالمي المخجل بأنها الآمر الناهي، تفعل ما تريد ومتى ما أرادت وكيفما تهوى. لقد كانت من قبل تبحث عن التطبيع والعيش بسلام مع الجوار، ولكن بعدما راقت لها الفكرة أصبحت تنظر من منظور السيد الآمر الطاغي، ولم يبقَ لها سوى أن تقول: "أنا ربكم الأعلى"، كما قال فرعون من قبلها. لعنة الله عليهم جميعًا.
لقد ضربت إسرائيل سوريا بحجة حماية الدروز، وهم في بلد مستقل آخر (سوريا)، أليس من الأولى بها أن تحمي الدروز وعرب 48 في الداخل الإسرائيلي وكذلك في الضفة الغربية من التعدي والعنجهية الصهيونية؟
ثم إذا كانت للدفاع عن الدروز في سوريا وتحديدًا في السويداء، فلماذا لا تكتفي بالإغارة على السويداء؟ ولماذا تضرب محافظات أخرى، بما فيها دمشق ومنشآت حساسة وعسكرية؟
لقد صدق المثل القائل: (من أمن العقوبة أساء الأدب)، وكذلك: إذا لم تستحِ فافعل ما تشاء.
لقد بدأ نتنياهو نافخًا عضلاته مستعرضًا، وهو المطلوب دوليًا كمجرم حرب، وهناك قضايا فساد داخلية تلاحقه، الأمر الذي جعله يتنطّط من حرب إلى حرب أخرى على حساب الغلابة، هروبًا من هذه المحاكمات التي تتربص له.
أليس كما يقول المحللون إن نتنياهو تودد لأبو مازن (مع احترامي لتاريخ أبو مازن النضالي)، والآن يتنكر له؟ والخوف كل الخوف أن يكرر ذات المقلب مع الرئيس الشرع.
ودعونا ندخل قليلًا في العمق حتى تتضح الأمور.
الدروز طائفة نشأت في القرن الحادي عشر الميلادي في مصر خلال عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وكانت تعد جزءًا من المذهب الإسماعيلي الشيعي، لكنها تطورت لتصبح مذهبًا مستقلًا. وهي تُنسب للداعية محمد بن إسماعيل الدرزي، والذي يُعرف بنشتكين، الذي أعلن ألوهية الحاكم بأمر الله، والذي يعتبرونه مظهرًا للإله.
وإن كانوا هم يميلون إلى حمزة بن علي الزوزني، وهو المؤسس الفكري، أما بهاء الدين المقتني فقد وضع الكثير من التعاليم السرية لهم.
يعيش الدروز بكل تقدير واحترام في سوريا ولبنان وفلسطين (إسرائيل)، مع وجود تجمعات صغيرة في الأردن والخليج والشتات، وهم عرب عن أب وجد.
ولا ننسى أنه كانت هناك محاولة من المتربصين، سواء دوليين أو محليين، في الساحل الشرقي من سوريا لإيقاد نار الفتنة مع الحكومة الجديدة ضد الطائفة العلوية الكريمة، ولكنها أُخمدت ولله الحمد.
وها هم يحاولون إيقاد نار الفتنة مع الدروز، وبإذن الله لن تنجح.
وللحقيقة نقول إن إسرائيل ومنذ 8 ديسمبر تحاول هدم وتفكيك المنشآت العسكرية السورية لإضعاف الدولة، والأمر لا علاقة له بحماية الدروز ولا غيرهم.
واعتبارًا من عام 2024، شهدت محافظة السويداء في سوريا احتجاجات واسعة ومواجهات بين المليشيات والفصائل المتعددة في السويداء والحكومة، وذلك ربما بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية، وانقطاع الكهرباء والوقود، وارتفاع الأسعار.
نحن نعلم أن السويداء أغلبية سكانها من الطائفة الدرزية، ولكن هناك مشاركات، بما فيها بدو العشائر الذين يمثلون المسلمين الآخرين، ولهم اعتبارهم كما هو للآخرين احترامهم وتقديرهم.
والخوف كل الخوف أن تتدخل الطوائف المسلمة الأخرى وتتداعى لحماية أبناء جلدتهم، وهنا سوف تتشعب الأمور وتخرج عن السيطرة -لا قدّر الله - كما إنها متاخمة للجولان (ربما تعتبرها إسرائيل خطًا أماميًا للدفاع عن الجولان المحتل منذ عقود).
ولكن هذا لا يعطي مبررًا مطلقًا لأهلها للاستقواء على وطنهم بإسرائيل، وهي العدو التاريخي، وهم يعلمون أنها مزروعة بخبث في المنطقة، وإن كانت تغريهم بصفة كيدية ببعض المساعدات.
والغريب أن كل دول العالم، بما فيها الداخل، تطالب أن يكون السلاح بيد الدولة، ما عدا في السويداء! فلماذا تنقلب الأمور على رأسها بهذه السرعة؟
وأقول للإخوة الدروز: إيّاكم ثم إيّاكم أن تفكروا بالانفصال عن بلادكم والزحف باتجاه إسرائيل، ساعتها سوف يُذلّونكم، ويكون أوطأ يهودي قادم من أوروبا سيدًا عليكم.
وتذكروا قول الشاعر:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة .. وأهلي وإن بخلوا عليّ كرام
إن انسحاب قوات الجيش السوري المتكرر بعد كل تدخل بناءً على اتفاق ما، والذي في كل مرة يفشل، يعطي الدافع للميليشيات الخارجة عن القانون القوة، وإحساسها المزعوم بالفوز والنصر.
ولو كنت صاحب قرار في الأمر، لطلبت من الدولة السورية قطع الاتصالات عن السويداء والمحافظات المجاورة لها لمدة 6 أو 7 ساعات أو حتى 12 ساعة، يدخل خلالها الجيش السويداء ويمشّط كل مكان، ويفرض هيبة الدولة وسيطرتها الكاملة غير المنقوصة على كل جزء من السويداء، وبعدها تُعاد الاتصالات، وتُشكل لجنة أو مجلس أغلبيته من الدروز لمساعدة المحافظ في إدارة المحافظة، مع الإسراع بتوفير الخدمات من كهرباء وماء ومرافق حيوية.
أو يمكن استخدام أي تكتيك آخر لفرض هيمنة وسيطرة الدولة، مع الرحمة والرفق بالأهالي.
وهنا نقول للعالم: اخجلوا، ودعوا سوريا تلملم جراحها بعد كل النكبات التي مرَّت بها، وأوقفوا غطرسة إسرائيل وعربدتها.
ونقول للعرب والمسلمين: تضامنوا قدر المستطاع مع سوريا، ولو من تحت الطاولة إن لم تستطيعوا من فوقها.
حفظ الله سوريا، والأمة العربية والإسلامية، من كل شر ومكروه.