لا تخبر أحدا

سلطان بن ناصر القاسمي

كنت أتصفح أحد برامج التواصل الاجتماعي، وحين وقعت عيني على عبارة مأثورة استوقفتني كثيرا وهي: (لا تخبر أحدا حتى تنتهي).

قد تبدو كلمات بسيطة، لكن وراءها وعي عميق، وفلسفة إنسانية نابعة من تجارب متكررة، تؤكد أن بعض الأهداف لا تكتمل إلا في الظل، وأن بعض النجاحات لا تنضج إلا في صمت، والنجاح يبدأ بفكرة، ويكبر بخطة، ويولد فعليا حين يتحول إلى عمل. لكن كثيرا ما يسبق الحماس العمل، فنندفع لإخبار الآخرين بما نحلم به ونخطط له، نشاركهم طموحاتنا وأهدافنا، لا رغبة في المباهاة، بل بدافع الحب، أو بحثا عن التشجيع، أو لأن الفرح الداخلي يصعب علينا كتمانه.


لكن هذه المشاركة -رغم نوايانا الطيبة- قد تكون الثغرة التي تتسلل منها طاقات الآخرين إلينا، سواء كانت نظرات أو تعليقات أو حتى مشاعر غير معلنة، فتربك مسارنا وتضعف حماسنا وتخفت جذوة السعي قبل أن تكتمل الخطوة الأولى.

ولهذا، فإن فكرة المقال تتمحور حول وصية واحدة: احفظ سرك حتى يتحقق، ولا تتعجل بإخبار الناس بأحلامك قبل أن تنضج، ولا تطلق نداءات الفرح قبل أن تصل خط النهاية، فالصمت في البدايات حكمة، والنجاح حين يكتمل سيتحدث عنك بوضوح. حيث إن كثيرا من مشاريعنا تبدأ بفكرة، ثم تتشكل هدفًا، ثم نبدأ في السعي، لكن كي تظل هذه الفكرة حية، لا بد أن نحوطها بالصبر، ونحميها من العيون، ونبقيها تحت الغطاء حتى تكتمل.

ولا يعني هذا الانغلاق أو الانعزال، بل هو احتفاظ بما هو ثمين حتى يحين وقته، فكثير من المشكلات تبدأ حين نظن أن من نخبرهم بسعينا سيساندوننا، ثم نفاجأ بأن بعضهم يخذلنا أو يقلل منا أو ينقل سرنا.

والنوايا ليست كلها شريرة وليست كل العيون حاسدة، لكن في الحياة تجارب تُعلّمنا أن بعض الأحاديث مكانها الدعاء لا المجالس، وأن أول من يفشي أسرارك قد يكون هو من ائتمنته عليها، لا عن قصد دائما بل أحيانا بحديث عابر أو نكتة خفيفة تتحول إلى حديث عام.

وقد قالوا: (لا تخبر أحدا عن يدك التي تؤلمك، فقد يأتي يوم ويضغط عليها)، و(لا تكشف عن سر دمعتك، فقد تجد من يجيد إعادتها إلى عينيك)، و(لا تتحدث عن نقاط ضعفك إلا مع ربك).
وقد روى الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود).
وفي هذا الحديث توجيه رفيع: لا تفصح عن خطواتك قبل أن تكتمل، ولا تنشر نورك وهو لا يزال في طور التكوين.

قال بعضهم أيضا: (اكتم عن الناس ذهبك وذهابك ومذهبك)، وتلك الحكمة القديمة تتكرر بصور مختلفة، لكنها تلتقي عند معنى واحد: احم ما تحب بالصمت، واصنع ما تريد دون ضجيج.

نعم، حين نخطط لأهدافنا، نشعر بشغف داخلي يدفعنا لإعلانها، وكأننا حققنا نصفها، ولكن الحقيقة أن الحديث عن الحلم يمنح الدماغ شعورا مؤقتا بالإنجاز، فيتراجع الحافز الفعلي للسعي.
وهنا تظهر خطورة الإفصاح المبكر، فحين نتكلم كثيرا، نصبح أقل فاعلية، وتضيع ملامح الهدف بين التوقعات والردود. وقد نصطدم بردود فعل سلبية من أشخاص لم نتوقعهم، وتصبح كلماتهم عبئا على القلب بدلا من أن تكون دعما.

مع ذلك، لا يعني هذا أن نصمت دائما. فهناك مواقف يكون فيها الحديث ضرورة، كطلب استشارة من مختص، أو طلب دعم محدد من شخص موثوق.

وكما قال يعقوب عليه السلام لابنه: (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا) (يوسف: 5). هذه آية تنير طريق الكتمان، خاصة حين نخاف من حسد أو سوء فهم، وتعلمنا أن نختار من نفصح له ومتى ولماذا.

وقد مررت، كما مر غيري، بمواقف كثيرة، كانت تنطلق من فرح صادق، أو حسن نية، ولكن ما إن نعلن ما نحمل، حتى يتبدل الجو. نظرات، همسات، أحاديث خلف الأبواب، أو طعنات مغطاة بالابتسامة.
وقد يحدث ذلك حتى في العمل، فتأتي بفكرة، وتشاركها مع من حولك، وإذا بها تنسب إلى غيرك، ويحتفى بها على ألسنة أخرى، وترفع بيد لم تتعب بها.

لذلك، الأفضل أن تنضج فكرتك في داخلك، وتعمل عليها بصمت، ثم تقدمها حين تكتمل، واضحة المعالم، تحمل توقيعك بجهدك، لا بحديثك. ولا شيء يشعل الحماس مثل التحفيز الذاتي. نعم، هناك من يدعمونك بصدق، ويشعرون أن نجاحك من نجاحهم، لكن في أغلب الأحيان، لا أحد يحمي طموحك مثل صمتك.

والصمت يبقي الجهد داخليا، ويجعل السعي نابعا من رغبتك في التقدم، لا من انتظار تصفيق الآخرين. وهنا يكمن جوهر الإنجاز: أن يكون لك، ومنك، ولذاتك أولا.

إن النجاح لا يحتاج ضجيجا، بل يحتاج اتزانا. والأصوات العالية لا تبني، ولكن الخطوات الصامتة تترك الأثر الأعمق. والكتمان ليس خوفا، بل نضج.

خاصة في أمور الأسرة، والعمل، والمشروعات التي لا تزال في بداياتها.
دع أهدافك تنمو بهدوء، مثل بذرة لا تخرج للضوء إلا وقد تشبعت من الأرض، وتشبثت بجذورها. وحين يحين الوقت، لن تحتاج للكلام، فنتائجك ستتكلم عنك.

وكما يقال: (اعمل في صمت، ودع نجاحك يصنع الضجيج).
فمن هنا، لا تخبر أحدا بما تفعله، حتى تنتهي منه.

 

الأكثر قراءة