علي بن سالم كفيتان
ظهر شاحب الوجه، غائر العينين، ينادي الأمة من خلف لثام الجهاد والرسوخ الأبدي على أرض الرباط. يبدو لي أنه النداء الأخير لشعوب ظلّت حائرة طوال 700 يوم عمّا يحدث في فلسطين، شعوب يحكمها الخوف والتهديد بلقمة العيش والذهاب إلى غياهب سجون الأنظمة الموالية للظلم، وأمة باتت منشغلة بالإجابة على سؤال لم يعد مهمًا الإجابة عليه الآن، وهو: هل السنوار ورفاقه أخطأوا أم أصابوا في السابع من أكتوبر 2023عندما أرادوا استعادة جزء من أرضهم التي نهبها الصهاينة؟
أمة تنصّب المحاكمات الوهمية، وتُعد المشانق لرجال لم يعودوا بيننا اليوم بأجسادهم، فالسنوار والضيف ومروان عيسى وهنية غادروا عالمنا وهم مؤمنون بعدالة قضيتهم، ودفعوا أغلى ما يملكون من أجلها، فهل حريٌّ بنا اليوم أن نحاكمهم؟ في الوقت الذي يموت فيه الآلاف من جراء المجاعة، ونحن نحيط بهم من كل حدب وصوب، ومشاركين في تجويعهم وعزلهم خوفا من عربدة الكيان الصهيوني والجبروت الأمريكي الظالم.
ما الذي منع الأمة الإسلامية والعربية عن مناصرة المظلومين في غزة؟ سؤال حائر منذ السابع من أكتوبر، لم نجد له إجابة شافية إلى اليوم. وغالبًا ما نذهب إلى خانة التطبيع ونُلقي عليها كل خيباتنا كشعوب، في الوقت الذي طبّعت فيه الأنظمة وليس الشعوب، وفي الوقت الذي لم يُقبل فيه الجسد الصهيوني في عالمنا، رغم المصافحات ورفع الأعلام والتبادل الدبلوماسي. فالشعوب العربية والإسلامية تمقت هذا المسخ ولا تطيقه، لأنه يثبت للعالم كل يوم أنه كيان مجرم، دأب على سفك الدماء وسرقة الأرض وانتهاك العرض. فلا يستطيع أحد إقناع الأمم والشعوب بغير ذلك، والكل على يقين أن الضغوط التي تمارسها أمريكا على الأنظمة تستهدف الداخل أكثر من الخارج: فإما التطبيع مع هذا الكيان المجرم، وإما الإطاحة بالأنظمة وخلق الفوضى والدمار والحروب والسيطرة على مقدرات الأمم واستلاب كرامتها. فلا خيار ثالث على طاولة ترامب.
إذا أحسنا الظن في بعض الأنظمة، نقول إنها تنظر من زاوية دفع الضرر الأشمل من خلال مهادنة هذا الجبروت وكسب المزيد من الوقت حتى تتوفر خيارات أفضل، فالسياسة كما يقولون فن الممكن، ولا تضع للعاطفة وزنًا كبيرًا في المعادلة، وتحاول أن تلجم الشعوب الثائرة بخطوات عقلانية وكأن لسان حال السياسة يقول: إذا دخلنا في خط المواجهة المباشرة، فسيكون مصيرنا مصير غزة وإيران. وهذا التيار أصبح يسيطر على الضمير والوجدان العربي، ومسوق لاستمرار الخذلان، وإدخال الشك في قدرة الشعوب على الاضطلاع بدور فاعل في منع الظلم أو حتى التعبير عن الاستياء مما يحدث.
لهذا لم نرَ مظاهرات في العواصم العربية، ولم نسمع صوت الشعوب المرتهنة للخوف والرجاء. ولا شك أن إفقار الأمة، وسلب مقدراتها، وجعل السواد الأعظم يرزحون تحت خط الفقر والعوز، واستشراء البطالة، ونمو الفراغ، وتفشي الجريمة، جميعها أهداف يرسمها الغرب وتنفذها بعض الأنظمة بحذافيرها، إلا من رحم الله منهم.
هذا الدفع القسري للشعوب يجعلهم يلهثون خلف لقمة العيش، ويؤلّهون الأنظمة، وينسون قضاياهم المحورية.
حاول البعض تسويق الكيان المحتل كنموذج عصري وديمقراطي وبوابة للتنمية المستدامة والتقدم العلمي والتقني في الشرق الأوسط، لكنه فشل في الاختبار الأول، وهو اختبار السابع من أكتوبر، فعاد إلى وجهه الحقيقي، وهو الوجه الإجرامي القبيح. ولعل هذا الاختبار كان ضروريًا جدًا للمتوهمين بنعومة إسرائيل وجنوحها للسلم والتنمية.
ولا شك أن من وضع الاختبار "السنوار - رحمه الله" كان قد فهم المادة تمامًا، فأخرج كامل الوجه الكالح وكشفه للعالم، فبات رئيس نظامه (نتنياهو) ووزير حربه (غالانت) مجرمي حرب مطلوبين للعدالة، وأصبح الصهاينة في كل بقاع الدنيا منبوذين. ولم يكن ذلك ليتحقق قبل خوض اختبار السنوار. فهل تستعيد الأنظمة نفسها وترجع إلى شعوبها؟ أم تستمر في نظرتها البراغماتية النفعية وتحالفها مع الظالم؟
والخيار الثاني يقود لمخاطرة كبيرة جدًا، تتمثل في فقدان تلك الأنظمة شرعيتها تدريجيًا وانهيارها، وهذا ما يسعى له الصهاينة والغرب، وهو إحداث شرخ كبير بين الأنظمة وقواعدها الشعبية، وتوسيع الهوة بين الحاكم والمحكوم، حتى الوصول إلى فقدان المصداقية ومن ثم الفوضى العارمة.
نداء أبو عبيدة الأخير للأمة العربية والإسلامية نهاية الأسبوع الماضي، بمثابة الإعداد لحدث يشابه السابع من أكتوبر. ولا شك أنه اختبار جديد لذات المادة ولنفس الطلبة الذين سقطوا في الدور الأول. فهل ينجح العرب في اختبار الدور الثاني؟ أم سيعيدون العام الدراسي بأكمله؟
هذا ما سوف تُنبئ عنه الأيام.
حفظ الله فلسطين حرّة أبيّة.