حول الاستبداد وطبائعه (1-2)

 

عبيدلي العبيدلي

لم يكن اختيار هذا العنوان "حول الاستبداد وطبائعه" عشوائيا، فالمقطع الأول منه "حول الاستبداد"، هو العنوان الكامل (On Tyranny) لكراس صغير، من تأليف المؤرخ تيموثي سنايدر (Timothy Snyder)، وهو أستاذ التاريخ بجامعة ريتشارد سي ليفين، بجامعة ييل الأمريكية، وزميل دائم في معهد العلوم الإنسانية في فيينا. في حين تشير كلمة (طبائعه) إلى كتاب المفكر السوري النهضوي، عبد الرحمن الكواكبي الموسوم "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".

ويفصل بين العملين مسافة زمنية تبلغ ما يربو على النصف قرن، وتجمع بينهما قضية واحدة هي محاربة الاستبداد. فكما تلمس الكواكبي التسلط العثماني على البلاد العربية، وحكم الاستبداد الذي مارسه الحكام العثمانيون كي يطبقوا قبضتهم على مجريات الأمور فيها، لصالح امبراطوريتهم، كذلك تصدى سنايدر لموجة الاستبداد التي عرفتها أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية، ممثلة في الحكم النازي في ألمانيا، ونظيره الشمولي في الاتحاد السوفياتي، والذي بدأت معالمه تطل علينا مجددا بوجهها القبيح مع صعود الموجة الشعبوية التي تجتاح الغرب، وتوصل من يتبنى تلك النزعة مقاليد الحكم في بلدانه.

ففيما يتعلق بالكواكبي، وكما تجمع عليه المصادر التي تتناول الحديث عن سيرته فهو: عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي (1271هـ/ 1855– 1320هـ/ 1902م)، أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وعندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر في حلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة "الشهباء"، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها".

يُشخص الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، الداء السياسي الذي كان يلجم تطور بلاد المسلمين، وفي القلب منها البلاد العربية، المسلمين، ويرسم معالمه بدقة وتفصيل منقطعي النظير، عند تناوله قضية "الاستبداد السياسي"، الذي يطلق عليه صفة "الداء"، دون أن يترك الأمور على عواهنها للتخلص منه عن طريق اللجوء ما أطلق عليه صفة "الشورى الدستورية"، مشيرا إليها بوصفها الدواء الشافي لذلك الداء الذي يعتبر الكواكبي ما سواه، لا يتجاوز كونه " فرع لأصل ونتيجة لا وسيلة".

وعلى أرضية هذا التشخيص الدقيق، والأرضية الصلبة يرى الكواكبي "أن الاستبداد هو الأصل ما لم تكن الحكومة تحت الرقابة الشديدة الذي لا تسامح فيه، ويذكر أن من الأمور المقررة طبيعةً وتاريخًا أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد".

ثم يضيف في مكان آخر، واصفا ممارسات المستبد من جانب، والأمة التي تقبل به من جانب آخر قائلا، "إن الأمة إذا ضُربت عليها الذلة والمسكنة، وتوالت على ذلك القرون ، تصير تلك الأمَّة سافلة الطِّباع ، حتى إنَّها تصير كالبهائم، أو دون البهائم، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة، ولا ترى لها في الحياة وظيفة غير التابعية للغالب عليها، وقد تنقم على المستبدِّ نادراً، ولكنْ، طلباً للانتقام من شخصه لا طلباً للخلاص من الاستبداد، فلا تستفيد شيئاً، إنما تستبدل مرضاً بمرض؛ كمغص بصداع، وقد تقاوم المستبدَّ بسوق مستبد آخر تتوسم فيه أنه أقوى شوكةً من المستبد الأول".

مسألة في غاية الأهمية توقف عندها الكواكبي عند تشخيصه داء الاستبداد، وهي تلك العلاقة الوثيقة ذات التأثير المتبادل بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، حين نجده يقول "تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب. والفريقان مصيبان في حكمهما بالنظر إلى مغزى أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الإنجيل؛ ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما، كما هم مخطئون إذا نظروا إلى أن القرآن جاء مؤيداً للاستبداد السياسي. وليس من العذر شيء أن يقولوا: نحن لا ندرك دقائق القرآن نظراً لخفائها علينا في طي بلاغته ووراء العلم بأسباب نزول آياته، وإنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبدِّيهم بالدين".

ولا يقف الكواكبي عند التشخيص فحسب، بل ينهي كتابه بفصل أخير يطلق عليه عنوان "الاستبداد والتخلص منه"، وفيه دعوة واضحة إلى ان مواجهة الاستبداد والتخلص منه ومقاومته لا ينبغي أن تكون باللجوء إلى العنف، بل، كما يقول الكواكبي "باللين والتدرج"، فـ"السعي في رفع الاستبداد أقول: (1) الأمة التي لا يعرف كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية"، (2)، الاستبداد لا يقاوم بالعنف، إنما يقاوم باللين والتدرج، (3) يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد".

ولعل في كل بند من تلك البنود الثلاثة الكثير من القضايا التي يمكن أن تثير الكثير من الجدل اليوم، استطاع الكواكبي، وفي مرحلة متقدمة، من تاريخ تطور المجتمعات العربية تلمسه، بشكل متطور، لم تستطع أن تتوصل له الكثير من القيادات السياسية التي جاءت بعده، ومارست دورا سلبيا في التصدي لسلطات الاستبداد التي طالبت تلك الأولى بتغييرها. هذا ما جعلت من الكواكبي قائدا مستنيرا، ومن كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، مادة حية ينبغي العودة لها حتى بعد مضي قرن من الزمان على نشرها.

ولعل خير ما نختم به حديثنا عن شيخنا الراحل الكواكبي، ما جاء في نعي الشاعر المصري حافظ إبراهيم له ببيتي شعر نقشا على قبره:

هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى// هنا خير مظلوم هنا خير كاتب

قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلموا// عليه فهذا القبر قبر الكواكبي.