نساء.. ولكن..!

 

محمد علي العوض

وأنت تقلب كتاب "شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام" للشاعر اللبناني بشير يموت تتبادر إلى ذهنك نماذج مشرقة من تاريخ "كنداكات" السودان أمثال أماني شيخيتي وأماني ريناس في فترة ما قبل الميلاد، وستمر أمام عينيك صورة مهيرة بت عبود وهي تلهب حميّة الرجال وحماسهم من أجل التصدي للغزو التركي الغاشم، وكذلك صورة مندي بنت السلطان عجبنا وهي تقاتل ضمن صفوف ثوار جبال النوبة للتصدي للعدوان الإنجليزي المصري ممثلاً في الحملة التي كان يقودها المقدم سميث ضد السلطان عجبنا.

يسافر بك الكتاب نحو وهاد الصحراء العربية ومضارب قبائلها، ويُسلط الضوء بصورة واضحة على قائمة شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام؛ لتكتشف أنّ المرأة في ذلك العهد الجاهلي لم تكن فقط على صورة وأد القبور وملازمة الخدور كما لقنونا في بعض الكتب والمناهج، بل كانت أحد مكونات الحراك المجتمعي السائد آنذاك؛ لدرجة أن سُمي بعضهم بأمهاتهم مثل السليك بن السلكة وعمرو بن هند دون تحرج من ذيوع اسمها بين الركبان والمضارب.

كما كان لها حضور واضح في المشهد الأدبي، فالخنساء تماضر بنت عمرو السلمية كانت ترتاد سوق عكاظ وأمام النابغة تنشد مراثيها في أخويها صخر ومعاوية:

 

قذى بعينيك أم بالعين عوّار

أم أقفرت إذ خلت مِن أهلها الدار

كأن عيني لذكراه إذا خطرت

فيضٌ يسيل على الخدّين مدرار

ومن هؤلاء الشاعرات أيضًا صفية بنت ثعلبة الشيبانية، والملقبة بالحجيجة لقوة حجتها وحكمتها، وكان لها دور كبير في معركة "ذي قار" فقد تولت أمر الحشد وبث الحماسة في نفوس الفرسان حتى يكسروا شوكة الجيش الفارسي. حيث تقول كتب الأدب إنّ كسرى بعد أن قتل النعمان بن المُنذر لعدم تزويجه بابنته هند -ذات الحسن الفريد- أرسل إلى هانئ بن مسعود الشيباني بأن يسلمه ابنة النعمان التي تركها وديعة عنده، فأبى هانئ دفعها إليه خوفاً من المذمة ولوم العرب، فغضب كسرى على (بني شيبان) وأرسل إليهم جيشاً عرمرمًا، فلما أحسّت هند بالخطر استجارت بصفية فثارت الأخيرة غضبًا من أجلها وقامت خطيبة ومنشدة:

أحيوا الجوارَ فقد أماتته معا

كل الأعارب يا بني شيبانِ

ما العذر؟ قد نشدت جواري حرّةٌ

مغروسةٌ في الدرّ والمرجانِ

بنتُ الملوك ذوي الممالك والعُلا

ذاتُ الجمال وصفوةُ النعمانِ

 

وبالفعل هّبت القبيلة لحماية "هند" وإجارتها كما نوت "صفية" التي بدأت في حشد قومها وحلفائهم ورفع روحهم المعنوية من أجل الدفاع عن كرامة الحرائر:

شيبان قومي هل قبيلٌ مثلهم

عند الكفاح وكرّة الفرسانِ

وبفضلها استطاع بنو شيبان وحلفاؤهم من العرب الصمود في يومهم الأول، وتمكنوا من إلحاق الهزيمة بجنود كسرى الذين فروا مولين الأدبار، ويقال إنّ قادة كسرى أرسلوا إلى بني شيبان يطلبون منهم أن تكون "هند" في طاعة "منصور" أحد قواد كسرى ومن العرب، وبذلك يعفو كسرى عنهم ويبرئ ساحتهم؛ إلا أنّ صفية رفضت طلب كسرى وأنشدت:

 

يا ويح أمك يا منصور إنّ لنا

خيْلا كراما تصون الجار ما عَلِقا

كرّ منصور بجيشه مرة أخرى لكنه خسر، فبعث إلى كسرى يطلب مددا قوامه عشرين ألف جندي من العرب؛ فلما سمعت صفية بذلك قالت:

لأجل عشرين ألفا أُضحِ صارخةً

في آل بكرٍ وذا شيء من العجَبِ

لا تكشفوني بهذا اليوم وارتقبوا

يومي لوقت اجتماع العجمِ والعربِ

فأمده كسرى بما طلب؛ ولكن هيهات النصر لاسيّما إذا كان عدوك من يُدافع عن شرف نسائه وكرامتهن. لذا كان طبيعيا أن تنتهي المعركة بهزيمة الغزاة مرة ثالثة.. فجنّ جنون كسرى وأمر قائدا عربيا يقال له "الطميْح" أن يعد جيشا كبيرا للانتقام من العرب؛ إلا أنّ "الطميح" شق عليه أن تُهدر دماء قومه العرب ظلماً وعدوانًا، وتحركت فيه عصبية القبيلة فأرسل سراً إلى بني شيبان يحذرهم مما هو آتٍ؛ فقالت "صفية" تمتدحه:

لله دَرُّك من نصيحٍ صادقٍ

والنصحُ رأيك أيها الإنسانُ

أبلغ طميحاً يا رسولُ وقل له

بسيوف تغلِبَ تُغلبُ الأقرانُ

 

ثم قالت لقومها أتصبرون معي أم أستجير لي ولجارتي "هند" بقبائل العرب الأخرى؟ فأجابها قومها واستعدوا للقاء جيش الفرس بقيادة كسرى نفسه ومعه مائة ألف مُقاتل. ولما سمعت العرب بذلك استشعرت حميّتها واجتمعت كلها لصد عظيم الفرس في معركة سيذكرها التاريخ وستسير بذكرها الركبان والأزمان وكما قيل فقد (أصبحت "هند بنت النعمان" ابنةَ كل رجلٍ وأختَ كل فارس وأصبحت رمزا للكرامة العربية).

بعد ثلاثة أيام من القتال المُتواصل وصمود العرب أمام المستحيل قالت صفية لهند: هذا آخر يوم بيننا وبين هؤلاء القوم فاسفري على عمرو أخي – أي اكشفي عن وجهك- وأوصيه بما شئتِ؛ وبالفعل وقفت هند أمام عمرو وأسفرت عن وجه يشبه القمر في ليلة تمامه، وانشدت توصيه:

حافظ على الحسبِ النفيس الأرفعِ

بمدجّجين مع الرماح الشُّرَّعِ

واليوم يوم الفصل منك ومنهمُ

فاصبر لكل شديدة لم تُدفعِ

كان وقع الكلمات على قلب الفارس عمرو شديدا، فهجم ومن معه من فرسان العرب هجمة واحدة مزّقت صفوف الأعاجم؛ فهزم جيش الفرس وقتل أولاد كسرى الذي أصيب قبل أن يفر من ساحة المعركة؛ فكانت معركة (ذي قار) هي أول معركة ينتصر فيها العرب على الفرس؛ وأنشدت "هند" تمدح "صفية":

المجدُ والشرفُ الجسيمُ الأرفعُ

لصفيةٍ في قومها يُتوقعُ

مثال آخر على روح وشاعرية المرأة الجاهلية ما أنشدته "أم قرفة" عندما علمت بأنّ زوجها حذيفة بن بدر قد قبل ديّة ولدها "قرفة" فقالت ترثيه وتعيّر زوجها لقبوله الدية:

حذيفة لا سلمت من الأعادي

ولا وقيت شر النائباتِ

أيقتل قرفة قيس فترضى

بأنعام ونوق سارحاتِ؟

 

كما أنهنّ لم يكنّ يتحفّظن على هويّة أحبائهنّ والجهر بأسمائهم حتى في الحالات التي يكون فيها الحب من "جانب واحد" فها هي أمّ الضحّاك المُحاربيّة تندب حظها وتبكي حبًا بعد أن طلقها زوجها فتقول:

 

سألت المحبين الذين تحملوا

تباريح هذا الحب في سالف الدهر

فقلت لهم ما يذهب الحب بعدما

تبوأ ما بين الجوانح والصدر؟

فقالوا شفاء الحب حب يزيله

من آخر أو نأي طويل على هجر

 

وتقول ليلى العفيفة في وداع زوجها البّراق:

تزوّد بنا زادا فليس براجع

إلينا وصالٌ بعد هذا التقاطع

وكفكف بأطراف الوداع تمتعًا

جفونك من فيض الدموع الهوامع