د. محمد بن عوض المشيخي **
الشرفاء في العالم من أقصاه إلى أقصاه يقفون اليوم إجلالًا وتقديرًا لشعب الجبارين من أبناء فلسطين الأبية، اعترافًا بنضالهم في الدفاع بأرواحهم الطاهرة عن الأرض والعرض لتقرير المصير لإقامة الدولة الفلسطينية الحرة وعاصمتها القدس الشريف والتي كانت قبل معركة 7 من أكتوبر في خبر كان، بسبب تكالب الذئاب البشرية العفنة، والمتآمرين معهم لفرض صفقة القرن الدنية وتصفية القضية إلى الأبد.
ولكن شاءت الأقدار الربانية، أن تسطر المُقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها أروع صفحات البطولة والتضحية في سبيل تحرير مقدسات الأمة الإسلامية في أرض الرباط وعلى وجه الخصوص المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين؛ فقد عبر "طوفان الأقصى" عن مرحلة جديدة في حرب تحرير فلسطين المحتلة من البحر إلى النهر، وذلك عبر الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله عالية خفاقة تُعانق عنان السماء بدماء الشهداء الزكية، والتي تُواجه بصمودها وشجاعتهم ترسانة الأسلحة الغربية المتدفقة بلا انقطاع على العصابة الصهيونية التي تحكم ما يسمى بدولة إسرائيل وعلى وجه الخصوص أمريكا، من خلال إرسال أحدث الطائرات المقاتلة والقنابل العنقودية المحرمة دوليًا والتي تُرمى دون تمييز على رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ في غزة الصامدة. ولعل استشهاد أكثر من 32 ألف فلسطيني في قطاع غزة وحده، وجرح ما يقارب من 100 ألف مواطن فلسطيني؛ لهو وصمة عار على وجه الإنسانية وعلى وجه الخصوص المساندين لهذا الكيان السرطاني الذي يزعم بأنَّ حدوده تمتد من الفرات إلى النيل لتحقيق ما يعرف بـ"إسرائيل الكبرى"، حتى ولو تحقق ذلك على أنقاض صهاينة العرب المطبلين لنتنياهو، ولا شك أنَّ هذه التضحيات مُثمّنة ومُقدّرة لأنها تعتبر ثمن التحرير والعيش بكرامة.
يبدو لي أنَّ علامات النصر بدأت تتجلى بوضوح من خلال الصمود الأسطوري لكتائب عز الدين القسام وسرايا القدس، فمن الواجب علينا جميعًا التكاتف مع الشعب الفلسطيني، الذين يتعرضون لمحرقة القرن الحادي والعشرين من النازيين الجُدد الثلاثي (نتنياهو وسموتريش وابن غفير) فهؤلاء يقودون اليوم إسرائيل وحلفاءها إلى الدرك الأسفل من النَّار؛ إذ تخلى عنهم العالم كله بمن فيه مُعظم المسؤولين في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها حليفة إسرائيل، فماذا ينتظر بعض العرب الذين ما زالوا يعتقدون أن هذه العصابة المجرمة سوف توفر لهم الأمن والحماية من الأعداء في الوقت الذي تعجز إسرائيل عن حماية نفسها. ومن المفارقات العجيبة أن الجيش الإسرائيلي الذي كان يعتقد ضعفاء النفوس أنه لا يُقهر، قد اندحر وانهزم في رمال غزة خلال المعارك الضارية طوال الشهور الماضية، بينما في شمال فلسطين المُحتلة، فذاكرة قادة إسرائيل ما تزال حاضرة في أذهانهم حرب يوليو 2006 التي تجرّع فيها الإسرائيليون هزيمة ساحقة؛ إذ لقن فيها حزب الله جيش الاحتلال درسًا لا ينسى؛ فعقدة عبور الحدود اللبنانية إلى نهر الليطاني الذي يُهدد نتنياهو وغالانت كل يوم بالتوغل في عمق الأراضي اللبنانية؛ لن يتحقق على الإطلاق، لكونهم يدركون يقينًا أن جنوب لبنان سوف يكون مقبرة لجنودهم، فقد نجح حزب الله في إذلال جيش الاحتلال وعلمهم دروسًا لا تُنسى؛ فتلك الهزيمة تمنعهم من تكرار الأخطاء والمغامرات غير المحسوبة والتي قد تقود في المستقبل إلى قلب تلك المعادلة بنصر من الله، وبدلًا من ذلك تتجه بوصلة المجاهدين نحو القدس والزحف إلى عمق تل أبيب من عدة جبهات على غرار طوفان الأقصى. يقول الله عز وجل في كتابه العزيز: "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ".
وبالفعل كان هذا الأسبوع حافلًا بالمواقف الدولية والشعبية المناصرة لفلسطين عبر العالم، ففي مجلس الأمن أُجبرت الولايات المتحدة على التخلى عن مسودة قرار يدين "طوفان الأقصى" وبدلًا من ذلك نجحت الجزائر- ومن خلفها روسيا والصين- في صياغة واستصدار قرار أممي من مجلس الأمن يدعو إلى وقف لإطلاق النار في غزة لأول مرة منذ العدوان الإسرائيلي الأخير. صحيح أن إسرائيل لم تلتزم بالقرار، ولكن يشكل ذلك بداية لإجماع دولي نحو عزل إسرائيل ووضعها في الزاوية؛ لكون هذا الكيان يستمد وجوده وشرعيته التي أصبحت الآن في المحك من القرار الأممي رقم 181 والذي بقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية سنة 1947.
كما كانت الرسالة الثانية التي أغضبت إسرائيل وهزت العالم الحر؛ تقرير فرانشيسكا ألبانيز مقررة الأمم المتحدة الخاصة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، التي أكدت بما لا يكون فيه مجال للشك أن إسرائيل ارتكبت العديد من أعمال الإبادة وصولًا إلى التطهير العرقي في غزة، مما ترتب على هذه الجريمة المكتملة الأركان بحق الإنسانية، الأمر الذي عرضها لتهديدات ردًا على قيامها بواجبها.
وفي الختام.. يجب تذكير الجميع بأن الحكومة اليمينية المتطرفة في تل أبيب تلفظ أنفاسها الأخيرة بسبب التضامن الدولي الواسع مع القضية الفلسطينية، وفي مقدمة هذه الشعوب الحرة التي تتمتع بضمائر حية ونوايا صادقة الشعب العماني الأبيّ الذي أضحى من النماذج الرائعة التي يشار لها بالبنان في الوقوف مع الحقوق العادلة للأشقاء في غزة وقضيتهم العادلة، فقد أبهر جميع المخلصين في هذا الكون شجاعة وصلابة سماحة الشيخ أحمد الخليلي المفتي العام للسلطنة، وكذلك موقف الفارسين معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية، والإعلامي ورئيس تحرير جريدة الرؤية الأستاذ حاتم الطائي، فهؤلاء القامات ثلاثة من حق العرب أن تفتخر بأمثالهم من المحيط إلى الخليج، وذلك على مواقفهم المُشرِّفة تجاه قضية الأمة الأولى؛ فلسطين ومسجدها الأقصى الذي يُندس من قبل الصهاينة. كما يجب التذكير بمواقف مشرفة وجديرة بالتقدير من الكويت الشقيقة؛ فالتاريخ يسجل بأحرف من نور لمعالي مرزوق الغانم؛ عند ما كان يتولى رئاسة مجلس الأمة الكويتي، خلال مشاركته بمُؤتمر اتحاد البرلمان العربي الطارئ في الأردن، فقد أمسك بنسخة من صفقة القرن المزعومة وألقاها في سلة المُهملات، مؤكداً أنَّ تلك الصفقة وُلِدَت ميتة و"مكانها مزبلة التاريخ". وبالفعل يرحل الجميع من المشهد وتبقى مواقفهم المضيئة؛ تشهد لهم عبر الأجيال.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري