المدن الذكية (1 – 2)

 

 

عبيدلي العبيدلي

 

كما حمل لنا مطلع القرن الواحد والعشرين، وما يزال،  تعبير "الهاتف الذكي"، فأصبح ملازماً لكل أنشطة المواطن العادي، بدأ يشيع اليوم، على نحو مُتزايد، تعبير "المدن الذكية"، فبتنا نسمع أو نُشارك في فعاليات وتيرتها سريعة، ومتكررة، تناقش موضوعات تفصيلية ذات علاقة بتشييد، وصيانة، وتطوير، ليس فقط البنية التحتية والمباني التي سوف تقوم فوقها، تلك المدن، بل حتى السلوك والقيم الاجتماعية التي سيتحلى بها سكانها. وكما نشر موقع (http://chermatfox.blogspot.com/2015/04/blog-post_44.html)، "يبدو أنّ (الذكاء) أصبح بحجم كرة كبيرة تتدحرج لتضم مدناً بكاملها في عصر باتت فيه تقنية المعلومات والاتصالات ركناً أساسيًا في حياتنا اليومية".

في السياق ذاته، وعلى نحو مواز، ومستقل، وتحديدا في أواخر العام 2018، نظمت "مجلة إم آي تكنولوجي ريفيو" ، (مؤتمر إيمتيك مينا لعام 2018)، بالشراكة مع مؤسسة هيكل ميديا للمستقبل، مؤتمرا ضم مجموعة من الخبراء بنوا، من خلال أوراق العمل، والمداخلات التي قدموها، منظومة مُتكاملة من القضايا ذات العلاقة بمسارات التحول من المدن الحالية إلى المدن الذكية. وعندما جاء دور أمبايش ميترا "الذي يُدير شركة تقنية تركز على الواقع المعزز وحلول الرؤية الحاسوبية"،  صدم الحاضرين قائلا إنِّه بحلول العام 2025 سيتم الوصول إلى 50% من المعلومات على مستوى العالم باستخدام الرؤية والصوت، بدلاً من الكتابة والطباعة، كما هو الوضع حالياً".

وكما يرى الباحثان إبراهيم جواد آل يوسف، ومحمد مهدي حسين، يقف النمو السكاني والتحضر السريع وراء "التغييرات الكبيرة التي تشهدها مدن العالم منذ العقود القليلة الماضية، ما قاد إلى نشوء اتجاهين عقلانيين لإستراتيجيات التحكم بهذه التغييرات: الأول يستند إلى توجه محافظ على البيئة والموارد والاقتصاد والطاقات المتاحة والتكامل بينها ويتمثل بنموذج المدينة المُستدامة، والثاني يستند إلى تعزيز جودة وأداء الخدمات الحضرية بطريقة تفاعلية مع الإنسان من خلال التكنولوجيات الرقمية أو تقنيات المعلومات بهدف تعزيز نوعية الحياة وبتمثل بنموذج المدينة الذكية".

هذا يعني، أنه بخلاف ما بتصور البعض منّا، أن المدن الذكية، لا تعدو كونها مباني تستخدم التقنيات بشكل متطور، وذكي، بل إن ذلك النوع من المدن، سيولد آليات جديدة، مؤهلة لتنظيم العلاقات بين أفراد ومكونات مجتمعات تلك المدن، الأمر الذي من شأنه نسج شبكة جديدة، ينبغي أن يكون في سعتها احتضان وتسيير القيم والمعايير التي سيفرزها الاستخدام الإنساني الذكي لما سوف تضعه تلك المدن من تقنيات متقدمة تحت يدي قاطنيها، وتفرض نفسها، بشكل غير خياري، على سلوكهم اليومي في تعاملهم، ليس بين بعضهم البعض وحسب، بل حتى مع الآلات التي ستشاركهم العيش في تلك المدن.

ليس المقصود هنا، تلك الأجهزة والمعدات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي، فحسب، بل الروبوتات "الإنسان الآلي" التي ستتجاوز سرعة تفكيرها، ومن ثم ردود فعلها الزمنية، ملايين المرات تلك التي يتمتع بها الإنسان.

ولا بد من الاعتراف، أنه ما يزال مفهوم، أو بالأحرى تعريف "المدن الذكية" في مراحله الجنينية، ويشوبه الكثير من الغموض. هذا ما تعترف به مديرة قسم تطوير الأعمال في شركة (أريكسون) لخدمات تكنولوجية الاتصالات أندريا بيتي لـمحطةCNN  العربية قائلة "ليس هناك تعريف واحد للمدينة الذكية. وتتأثر المدن الذكية بنفوذ تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لحل المشاكل الحضرية الأساسية مثل المياه والطاقة والسلامة والنقل"، مضيفة "أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تعتبر مكونا أساسيا لتسريع الحياة الحضرية، وأداة لتمكين الحلول المُبتكرة لقضايا مرتبطة باتجاهات التحضر، والتي ستجلب المزيد من البشر للعيش في المدن الكبيرة في المستقبل." (http://chermatfox.blogspot.com/2015/04/blog-post_44.html).

لذلك نجد المعهد البريطاني للمعايير (BSI) يعتبر المدن الذكية أنها "التكامل الفعال للأنظمة المادية والرقمية والبشرية في البيئة المبنية، لتوفير مستقبل مستدام ومزدهر وشامل لقاطنيها، (في حين) تراه شركات صناعة التكنولوجيا من منظور مختلف تماما. فبحسب شركة (IBM)، وهي شركة عالمية متعددة الجنسيات تعمل في مجال تصنيع وتطوير الحواسيب والبرمجيات، (تعتبر المدينة الذكية) تلك التي تحقق الاستخدام الأمثل لكافة المعلومات المُترابطة المتاحة اليوم، لفهم عملياتها والتحكم فيها بشكل أفضل وتحسين استخدام الموارد المحدودة. أما بالنسبة للمُواطنين والسكان، فيُنظر إلى المدينة الذكية كمساحة صالحة للسكن تشمل جميع الوظائف الأساسية التي توفرها المدينة المدمجة في التكنولوجيا والمعززة تقنياً. علاوة على ذلك، تعد معايير صداقة البيئة والاستدامة جزءا أساسيا في هذا المزيج". (http://www.chinatoday.com.cn/ctarabic/2018/sh/201805/t20180531_800131213.html).

وكي نقرب الصورة من ذهن القارئ، لابد من الانطلاق من تعريف تلك المدن القادمة نحونا، في فترة ليست بالبعيدة، وبسرعة لا مُتناهية عن واقعنا الذي نعيشه. وهناك العديد من التعريفات، البعض منها في غاية التعقيد، ليس على المستوى التقني فحسب، بل حتى على الصعيد الاجتماعي أيضاً، تناولتها النسخة العربية من "المجلة الدولية في العمارة والهندسة والتكنولوجيا"،(http://www.ierek.com/press)،  التي تعرف المدينة الذكية، على أنها، أي "تجمع عمراني يرتكز على ثلاث ركائز أساسية: ركيزة تقنية، وركيزة اجتماعية، وركيزة بيئية، وبالتالي فهي ثلاث مدن في واحدة وهي: المدينة الافتراضية/ المعلوماتية، والمدينة المعرفية، والمدينة البيئية، وتضم ثلاثة عناصر هي: المعلومات، والبيئة، والأفراد."

وليس هناك من دليل على زحف "المدن الذكية"، على مدننا القائمة، أقوى مما جاء في المقال الافتتاحي في مجلة "الاتحاد الدولي للاتصالات" بقلم الأمين العام لــ "الاتحاد" هولين جاو، الذي أكد فيه "نظرا لتسارع وتيرة عصر إنترنت الأشياء(IoT)، يعجل الاتحاد بمساهماته الفريدة في بناء المدن الذكية المستدامة ليوم غد. ونظراً إلى أنَّ ما يقدر بنسبة 70 في المائة من سكان العالم سيعيشون في المدن بحلول العام  2050، أصبحت المدن المُستدامة أولوية رئيسية في السياسة العامة بالنسبة للإدارات في جميع أنحاء العالم. وبهذا الصدد تؤدي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) دورا من خلال زيادة الكفاءة عبر قطاعات الصناعة وتمكين ابتكارات مثل أنظمة النقل الذكية (ITS)، والإدارة الذكية للمياه والطاقة والمخلفات، (مضيفا)، وهناك اعتراف واسع بأنَّ بناء تكنولوجيات (ذكية) في مدينة ذكية قائمة، أو تطوير مدينة ذكية مستدامة بذاتها أمر معقد، يستدعي تحسين التعاون وزيادة التكامل في عملية اتخاذ القرار من جانب مختلف أصحاب المصلحة. وهذا مجال رئيسي يُمكن للاتحاد أن يقدم مساعدة قيمة فيه".