الحلال والحرام في المعاملات المالية (2-2)

جمال النوفلي

 

يقول لي بعض الأصدقاء أنّ ما ذكرته في مقالي السابق من تشبيه ممارسات الفكر المالي لدى المسلمين اليوم بوضع الفكر المسيحي قبل عصر التنوير هو تحليل خاطئ ومجحف لديننا الإسلامي الحنيف؛ لأنّ الله تعالى نعى على النصارى أنهم كانوا يعبدون علماءهم من الرهبان والأحبار لأنّهم كانوا يدّعون أن بيدهم مفاتيح الجنة وصكوك الغفران وغير ذلك من الادعاءات الكاذبة التي كانوا ينسبونها الى الإنجيل بتحريف منهم لنصوصه.

فأقول لهم يا أصدقائي الأعزاء: لم يكن المسيحيون يعبدون الرهبان ولا كانوا يعبدون الأحبار وهم موجودون بيننا في أوطاننا العربية ولم نر أو نعلم بأن مسيحيا صار يعبد راهبا أو يسجد له، وجل ما يفعله الرهبان هو إعطاء صكوك غفران للمؤمنين التائبين في الديانة المسيحية والذين يجب أن يكونوا من نفس الطائفة أو المذهب الذي ينتمي إليه الراهب، وهي ذات الفكرة التي يتعامل بها المسلمون في مبدأ الولاية والبراءة أو الولاء والبراء في المذاهب الإسلامية باختلاف تسمياتها، والتي فيها أنّ المسلم الذي يتبع تعليمات وفتاوى مذهبه يعد في خانة الولاية فتجب محبته والدعاء له؛ وأما إن كان غير ذلك فهو في خانة البراءة. وأما عن قولك أنّ المسيحيين لم يكونوا يعبدون علماءهم فلك أن تعود أيضا إلى الرواية التي جاءت عن عدي بن حاتم أنه قال: أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب، فقال: يا عديّ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في "سورة براءة" فقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله)، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمون، ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم!

إنّ الشرح في هذه القضية يطول كثيرا وهي بسيطة جدا ولا تحتاج إلى كثير تفسير ومجادلة لأن تعاليم الله في قرآنه بسيطة وواضحة وضوح الشمس وأنت من خلال قراءتك للقران ستعرف كل التعليمات المطلوب منك تطبيقها، وستفهم أيضا أن كثيرا منها لست أنت المخاطب بها، فلا تنطبق عليك أو تظن أنك أنت المخاطب بها ولكنها من باب التحبيب والترغيب أو من باب التنفير أو من باب العظة أو غيره. ولذلك هناك من العلماء لا يقولون بقراءة القرآن فقط لكسب الأجر والثواب، بل إن قراءة القرآن هي في الأساس لتدبر تعاليم الدين والتفكر في خلق الله، فالقراءة لمجرد القراءة وحسب لا تصح أن تكون غاية ربانية سامية، فالله تعالى لا يريد منا أن نعيد قراءة كتابه كل يوم وكل حين دون مغزى؛ ولكنّه يريدنا أن نكون صالحين، أن يكون كل واحد منا صالحًا في نفسه ومع أهله ومع الناس ومع شغله ومع كل شيء حوله، فالخير والصلاح من أسباب دخول الجنة، لذا عليك أن تقرأ القرآن لتفهم أولًا ماذا يريد الله أن يخبرك عنه.

وأولئك الذين يفضلون اتباع مذاهبهم وعلمائهم ويظنون أنّهم لا يمكنهم فهم التعاليم التي نص الله عليها بشكل واضح في كتابه المنزل، إلا من خلال الإصغاء إلى فتاوى علمائهم ومشائخهم التي هي كثيرة جدا ومستمرة باستمرار، ظهوروا في القرنين الثاني والثالث الهجري نتيجة لتدخلات سياسية واجتماعية لأجل إعادة الناس من سلطة الله إلى سلطة البشر تماشيا مع توجهاتهم ورغباتهم الشخصية، فكانت هناك مدارس فقهية وفقهاء ينشرون تعاليمهم الخاصة لأتباعهم، وصار هناك أيضًا من يكتب الأحاديث ويدونها لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان قد منع وبشدة كتابة وتدوين الأحاديث في زمنه، وبعد وفاته بقرن أو قرنين بدأ البعض يجمع الأحاديث بكتابتها وتجميعها، مدخلين فيها الكثير من الأكاذيب طامعين في أن تكون لهم مدارس وأتباع تلبية لمتطلبات أصحاب المصالح، فيحيدون النّاس عن القرآن الكريم مقابل الاحتكام بصورة كبيرة إلى الأحاديث النبوية والسنة وغيرها، وكأن الأحاديث النبوية هي مصدر التشريع. وحين رأى بعض الفقهاء أن المسألة أصبحت فوضى وغير منظمة وضاع الناس في دينهم، خرجوا بأفكار جديدة فقالوا إنّ الله حرم علينا أشياء وحلل أشياء أخرى وأنّه لا يمكن لأي شخص أن ينسب إلى الله أنّه حرّم كذا أو حلل كذا، ولا بد أن يكون هناك نظام، فظهرت مصادر التشريع، أي أنّ الحرام والحلال لا بد أن يأتي من أحد هذه المصادر وهي القرآن الكريم ثم السنة النبوية ثم إجماع العلماء (يعني ما يتفق عليه مجموعة من العلماء على تحريمه) ثم القياس (أي أنّ العالم يرى ما حرمه الله في القرآن أو حرمته الأحاديث والروايات ثم يأتي بكل الأشياء التي يمكن أن تشابهها فيحرمها) ثم الاستحسان وأقوال الصحابة وغيرها من المصادر التي لا تنتهي.

وأنت تلاحظ أخي القارئ أنّ هناك مصادر جديدة صارت تنافس القرآن الكريم وأنّ معظم المحرمات في المدارس الفقهية التقليدية هي محرمة بتلك المصادر الجديدة للتحريم.

ومن هذه المصادر التشريعية المتعددة التي ذكرتها لك تكوّن الفكر الإسلامي الذي خرج منه فكر ما يسمى بـ"المالية الإسلامية" والتي أخذت على عاتقها تقديم منظومة من المعاملات المالية الإسلامية على أيدي علماء وفقهاء كبار متخصصين في فقه المعاملات والذي يمثلون المجالس والهيئات الشرعية في المؤسسات المالية.

وآمل أنني استطعت توضيح صورة مختصرة عن صناعة الحلال والحرام في الأنظمة المالية الإسلامية وأسباب الاختلاف في المعاملات بين إسلامية وأخرى أو بين مؤسسة إسلامية وأخرى.

تعليق عبر الفيس بوك