تقويم العلاقة بين السلطة التشريعية ومنظمات المجتمع المدني (1-2)

عبيدلي العبيدلي

ظاهِرة ملحوظة تشتركُ فيها عمليات انتخابات السلطات التشريعية في معظم البلدان النامية، ومن بينها البلدان العربية، وهي غياب -وفي أفضل الحالات اضمحلال- دور منظمات المجتمع المدني في تلك العمليات، وحتى في الفترة  التي تليها بعد ظهور الانتخابات وتشكُّل السلطة التشريعية.

ولعلَّ هذا من بين الأسباب الرئيسة التي تقفُ وراء مظاهر الضعف التي تُعاني منها السلطة التشريعية في هذه البلدان، بغضِّ النظر عن المستوى الديمقراطي الذي يواكب العملية الانتخابية، ودرجة الشفافية التي ترافق أنشطتها خلال فترة الانتخابات، وبعد الإعلان عن نتائجها على التوالي.

وهذا يدخل مُكوِّنات العمل السياسي في البلد المعني في دوامة مُنهِكة خلال البحث عن السبب والنتيجة التي قادت لمثل هذه النهائية المؤلمة: هل ضعف منظمات المجتمع المدني هو الذي يقف وراء الأسباب التي قادت لهذه الحالة، أم أنَّ هذه الأخيرة هي التي مارست دورا سلبيا في علاقاتها مع منظمات المجتمع المدني مما أدى لغيابها، إن لم نقل تغييبها الفعلي عن العملية السياسية خلال مرحلة الانتخابات، والفترة التي تلي ظهور نتائجها.

في البدء، لا بد من التأكيد على حقيقة -قد تبدو بديهية، لكنها تغيب عن أذهان مكونات العمل السياسي في البلد الذي تتكوَّن فيه السلطة التشريعية عبر صناديق الاقتراع- وهي كما يرد في  نسبة عالية من الدراسات التي تناقش موضوع علاقات التأثير المتبادل المعقدة بين منظمات المجتمع المدني والسلطات الثلاث، بما فيها السلطة التشريعية؛ إذ تنطلق تلك الاجتهادات من مقولة راسخة وهي أن "مفهوم (المجتمع المدني) قد ولد في رحم البناء الديمقراطي، فأصبح يعبر عن مجموعات المنظمات الاجتماعية غير الحكومية، التي تتمتَّع باستقلاليتها عن الدولة، فتحتل مكانا وسطا بين الدولة من جهة والمجتمع من جهة أخرى، فتحفظ بذلك للدولة دور التوازن المعبر عن إرادة القاعدة الشعبية الاجتماعية، وتمثل المؤشر الاجتماعي للحكومة والضمانة للثوابت الديمقراطية فيها. ولجهة الحكومة، فإنَّ المجتمع المدني يمثل الضمان لحصولها على الثقة الشعبية، والمصدر الحيوي لاختيار الائتلاف السياسي وتكليفه لتشكيلها.

وفي غياب تلك العلاقة التي تضمن مُعادلتها السليمة العلاقة المثمرة بين الطرفين: منظمات المجتمع المدني من جهة، والسلطات الثلاث في المجتمع، تتقدمها السلطة التشريعية، من جهة ثانية، يفقد صمام الأمان دوره الحقيقي الذي ينبغي له أن يمارسه لضمان تطور المجتمع المعني بطريقة واضحة المعالم، توصل مكونات عمله السياسي إلى العلاقات المثمرة بينها. وحينها يختل التوازن المجتمعي، وتختل معه مرتكزات عمليات التحول الديمقراطي المطلوب تحقيقه على أرض الواقع. ومن جراء ذلك تفقد منظمات المجتمع المدني القدرة على تحقيق أهم المهام المناطة بها وهي -كما تشير لها بعض الكتابات- "حملات الضغط علي البرلمان (بوصف كونها) إحدى الوسائل التي تمارسها منظمات المجتمع المدني: نقابات، اتحادات، غرف تجارية، أندية، منظمات حقوق الإنسان... إلخ" للعب دور في عملية الحكم الديمقراطي، وتكون حملات الضغط مخططًا لها ومنظمة من أجل التأثير علي السياسـيين (أعضاء المجلس التشريعي) الذين تم انتخابهم، وهي تحاول بذلك إيصال صوت المواطنين الذين تمثلهم إلى صـناع القرار لاستصدار قانون يخدم مصالحهم.

ومن بين أهم الأسباب التي تقود إلى هذه النهاية المؤلمة:

الإمعان في تسييس منظمات المجتمع المدني التي تفقد موضوعيتها التي لا تستطيع الاستغناء عنها؛ فتتحول من منظمة دينامية تستمد قوتها من أعضائها المنتمين لها، والمؤمنين بأهدافها إلى جهة خاملة تسيطر عليها الذيلية السياسية للجهة التي مارست عليها عمليات التسييس المختلفة. وليس المقصود هنا بتر منظمات المجتمع المدني عن فضاء العمل السياسي، بقدر ما هو التحذير من الإمعان في التسييس الذي يغيب شخصية تلك المنظمات، ويسلبها أقوى عناصر حضورها وهو انتمائها المدني، الذي يحقق لها نفوذها السياسي والتأثيرات المصاحبة له، وفي مقدمتها التأثير على السلطة التشريعية.

التنافس غير المهني الذي يستنزف قواها من جانب، ويحرِّفها عن مساراتها الصحيحة من جانب آخر، فتتَّسم العلاقة التي تنظم أنشطتها بالتسابق المحموم وراء أهداف ثانوية، بعيدة كل البعد عن تلك التي تواجدت تلك المنظمات من أجل تحقيقها؛ فقادها ذلك إلى ابتعادها في كثير من الأحيان إلى تحاشي التنسيق فيما بينها؛ حيث سخرت نسبة عالية من قواها التي بين يديها في عمليات التنافس، من أجل الاستحواذ. يزداد الأمر سوءا عندما يكون الهدف من وراء ذلك التنافس حب الظهور، وتهميش منظمات المجتمع المدني الأخرى، والاقتراب أكثر من دوائر السلطة. لا ينبغي أن يقودنا ذلك إلى فهم خاطئ يدعو لقتل روح المنافسة الشريفة، ويطفِئ جذوة العمل الجاد من أجل التفوق.

سيطرة مؤسسات الدولة، وكما يصفها الكاتب محمد نور فرح، قائلا  "يُمكن القول إنه حيث تتواجد الدولة المهيمنة التي تدَّعي لنفسها القدرة على القيام بوظائف شديدة الاتساع والشمول، بدءا من الأمن الداخلي والخارجي، حتى إدارة وتوجيه الاقتصاد، مرورا بصور الرعاية الاجتماعية والصحية المختلفة، في ظلِّ هذه الدولة تضمحلُّ أو تكاد تتلاشى مبادرات الأفراد في تنظيم أنفسهم في شكل تنظيمات طوعية من أجل الوفاء بمختلف حاجاتهم الاجتماعية، بل إنَّ الدولة المهيمنة ذاتها تضيق بهذه المبادرات ولا تشجعها لموقفها المبدئي المعادي لمبادرات الأفراد". وفي ظل مثل هذه السيادة، تفقد منظمات المجتمع المدني دورها المساهم في التعاون مع السلطة التشريعية، وتتحول إلى واحدة -ولو اختلف مظهرها الخارجي- من مؤسسات الدولة.

ضحالة الثقافة الديمقراطية، وفي أحيان كثيرة -كما يقول محسن أبو رمضان- غيابها، عندما يصبح "التعامل مع انتخابات "السلطة التشريعية" كمنصة للاستحواذ والسيطرة، وعدم الفصل بين عضوية الكتلة الانتخابية وبين عضوية المجلس التشريعي؛ حيث من المفترض أن يصبح عضو المجلس ممثلاً للشعب، رغم أن كتلة انتخابية وحزباً سياسياً ما هو الذي أفرزه"، مثل هذا المستوى من الضحالة يقلص من حضور السلطة التشريعية في الفضاء المدني من جهة، ويوصد أبواب التعاون بين تلك السلطة ومنظمات المجتمع المدني من جهة أخرى.