حبٌ فوق السحاب

مدرين المكتومية

ثمة وعودٌ لا تنتظرها مهما طال الأمد، ووعودٌ أخرى تتحقق دون أنْ تسعى إلى ذلك، ووعودٌ تقتفي أثرك أينما حللت أو ذهبت، وهذه الوعود تبشرك بحدث جميل ما يوشك أن يتحقق لك، أو أنك ستبلُغ أملًا ما، أو عودة إلى حبيب أو مكان تحبه، لطالما رأيته بنظرة الاستحالات والمسافات البعيدة.. كلُّ هذه الوعود البسيطة نتناساها أو نغفل عنها، ثم تعود ما تلبث أن تسيطر على عوالمنا لنسعى لتحقيقها أو الخلاص منها، وأجمل هذه الوعود وأحلاها وقعًا في القلب، هي أن يظل المرء منا مع حبيبه مدى العمر، وأن لا تغيِّره الأزمنة، ولا تتسبب محطات الحياة في أن نتقلب ضد من نحب، فتُنسينا رحلة العمر الطويلة ما كان من ذكرى جميلة تصنع الفرحة في النفس، أو كلمة رقيقة تُنسينا هموم الدنيا، أو حتى نظرة حانية تشعرنا بأن الدنيا تضمنا بين ذراعيها..

هُنَاك وعودٌ تأتي مُعلَّقة بين مقعدين في طائرة، يشهد عليها المسافرون والركاب، وعدٌ بأنْه لن يتركها، ووعد بأن يتزوجها بأسرع وقت مُمكن.. في ذات مرة كُنتُ الشَّاهدة الوحيدة على وعد من الوهلة الأولى خُيِّل لي أنه لن يتحقَّق ولن تراه هي أبدًا، كُنتُ أرقب نظرتيهما: نظرة امرأة خائفة مُتشبِّثة ببصيص أمل يكاد يكون مفقودًا، ونظرة رجل قرَّر أن يرحل لكنه لن يُفجِعْها، رجلٌ مُحاط بأعراف القبيلة وكلمات الشيوخ، كان يُنصت إليها وهي تطلُب منه إجابات، كان رفضُه للرد أوَّل الأدلة على أن الطريق مسدودٌ، وأنَّ النهاية التي جمعتهما على مقعدين في أعلى ارتفاع بالطائرة؛ هما نفس المقعدين اللذين سيحملانهما في المستقبل كلا على حدة، وربما كل شخص منهما مع رفيق آخر دون أن يلتقيا إلا إذا شاءت الأقدار أن تجمعها صُدفة.

كُنتُ قريبة جدًا منهما، منغمسة في هاتفي، لكنَّني أنصتُ لحجم الألم، استمع لتلك القِصة الجميلة: اثنان يجمعهُما الحب وتفرِّقهما قبيلة! رجل يفضِّل الخسارة على أن ينزاح عمَّا فرضته عليه تلك العادات والأعراف، رجل لا يملك سوى أن يكرر لها: "عساه خير.. إن شاء الله خير"، ويعود ليُخبرها أنه يُحبها وسيُقنع والده بالارتباط بها في أسرع وقت ممكن.. هي كلمات بسيطة وسهلة يُردِّدها أي رجل لا يملك قدرة على الدفاع عن حبه، في حين تأتي تلك المرأة القوية التي تقدس حبها لتبيع كل شيء، وتتخلَّى عن كل ما تمتلكه وتحارب العالم لتخطي المعوقات وتقدم الحجج والبراهين على حبها وإخلاصها، لأجل أن تُقنع رجلًا بأنَّها حقا تعشقه بحجم السماء في فضائها وارتفاعها، فقط كي تكون معه في لحظة ما، لحظة هي كل ما تتمنَّاه وترغب فيه، تهرب معه لمسافات- لا يُمكنه أن يعلم كم من الأذى النفسي الذي تعيشه فيها- لتكون معه فقط. كُنت أفكر في قدرتها الهائلة والرهيبة وشجاعتها كامرأة تعيش في مجتمع محافظ، كنت أرقب تلك القصة بمزيج من الفضول والألم الذي يعتصرني، ويختلج ذاتي على مدار ساعة كاملة.. كنت استمع إلى قصة تُحَاك بطريقة رائعة لا ينقُصها سوى مخرج مبدع وكاتب متمكن ليخط النهاية السعيدة كما الأفلام العربية القديمة!

إنَّ ما يُؤلمني حقًا أنَّني أخشى على أيِّ امرأة قوية تقودها مشاعرها نحو هلاك محدق، وإلى طريق صعب حتى بدأت بالتمزق، وشعرت بأنها لم تعد تمتلك قدرة على أن تبدأ من جديد، أو أن تكرر تلك اللحظات التي مرت بحلوها ومرها، لكنها انتهت: امراة أرهقت مشاعرها بوعود يصعُب تحقُّقها، ولكن من السهل العبث بها، امرأة لم تستطع يومًا أن تحفظ لنفسها مساحة من الحياة والذكريات لتعيش عليها وتتوسَّدها في المستقبل.

إنني أشفق على هؤلاء النساء وبشدة؛ لأنني لا أريد مزيدًا من الانهيارات والمعاناة لبنات جلدتي، لا أتمنى مطلقا أن تخسر إحداهن أكثر مما تخسر في كل تجربة حب لا تكتمل بسبب رجل لا يملك شجاعة الحب، يكفي أنها اختارت أن تعيش حياة صفتها المواربة والاختباء، وأرغمت نفسها على ذلك، حتى لا تقف في المنتصف، وتضطر لتعترف لنفسها بأنَّها خسرت، تظلُّ تبحث لنفسها عن عُذر بأنَّه يُحبها، أو أنه لن يعيش بدونها، وأن الحياة لن تكتمل إلا بقصتهما، وأنها قصة من قصص ألف ليلة وليلة، وستظل ترددها الألسن، ستصيغ في ذهنها كل عبارات النفي والإنكار بأنَّها لم تكن تعني له شيئًا، بل إنها- حسب مخيلتها- كانت كل شيء له، وأنَّ كل هذه السيناريوهات ما هي إلا مسألة وقت ليُسجِّلها ضمن بطولاته الطويلة، حتى وإن كان يُحبها فعلًا، لن يعترف لنفسه بذلك، ولن يغفر له الحب، ولن يشفع له الزمن؛ فقرار الرحيل أمر مُهِين للمرأة، وصعب جدًّا، في ظلِّ سقف التوقعات العالية جدًّا.

أعلمُ يقينًا بأن أُمنيات البقاء من رجل صعبة، لكنَّني كنت أردِّد أمنية صغيرة: "أن لا أكون على حق، وأن تتحقق تلك الوعود الطويلة"؛ فمهما كان وحصل، لابد على الرجل أن يظل بجانب امرأة قدَّمت له مشاعرها دون أن تطلُب منه أكثر من وعد، يظلُّ بجانبها على الأقل؛ حِفَاظًا على ما تبقَّى من تلك اللحظات التي صَنعَا منها سراديب لذكرياتٍ يعيشان عليها ما تبقَّى من العمر.. فهل كانت الفتاة محقة عندما قررت أن تصمت وتكتفي بدفء الذكريات؟ أم أن الرجل أضعف من أن يواجه الدنيا من أجلها؟!